العرب أونلاين
22 نوفمبر 2008
محمد طالب الأسدي
تشهد حضارة الانسان وتائر تحولات معرفية مطردة، تخترق جدلية الزمن المنفتح امامنا وتطرح على ورثــة الحضارات العريقــة المستبسلة فى الحفــاظ علـى ديمومتهـا الروحية ـ فى اقـل تقدير ـ تساؤلات مشروعة،عن طبيعة مقاربات غيـر اختيـارية تفرض معطياتهـا فى مشهـد الثقافة المعـاصرة، هذه المعطيات ـ أو هذا النـشاط ـ ذو تموج جدلـي، وحيـثيات مركـبة.
وهو غير تفسـيري، وغير انفعالـي، هو اشـبه بتوتر ألأجسام المـاديـــة حين تخضع لضغوطـات الطاقات، هو أشـبه بظـلال فى حيز هلامي، لايُخضـع، لا يحاور، لايُمتـلـك، ومن هنا كانت ُظـهوراتـه ظهورات مثيـرة للتسـاؤل، إنهـا مسـاجلة حـول وعى الذات ووعى الآخـر، ومواجهـة بين التـخطى والتخلي.
دخـلت الحضـارة الانسـانيـة عصر المكـان الممكـن / المتـخيـل / المفترض، الحيزات الحـرة، الفضـاء النفسى المجرد من جذور مادية، عصر ممالك السنتيمترات، حيـث ابن آدم أمام العـالم، عبـر نافذة الشـاشة، مزوداً، أو مدجـجاً بسلطـة التواصل الإرادي، وحرية العقل و الحواس، فى منـظومـة الثقـافة الكونـية، يدخلها دون قيد أو شرط، ويخـرج منها كذلك، لا يقف بينه وبين نقـطة فى الدائـرة اللانـهائيـة سوى لحـظة خائـرة.
إن السرعـة ـ وطالمـا وصف عصرنـا بعصر السرعـة ـ ما هى إلا زمـان فـى أوضـح تجـريداتهـا، وهنا نجدنـا قد تجـاوز بنا الزمن نفسـه إلى عصـر آخـر، عصر يظهـر ما للحيـز او المكـان من سلطـة علـى الزمـان، فالسرعة حركـة والحركـة تقاس بالزمـن فى المكـان، وعبارة مثـل: عصر المكـان، موضوعياً كان أم مفتـرضاً، تتضمـن البعد الزمـانى لتجليات الحضـارة جدلاً، فالزمـن مـا هو إلا البعد الرابـع من أبعـاد المكـان، والكـل يعوم فى نسبية مطلقـة، ذلك أن " العالـم الموضوعـى زمانى مكانـى فى أساسه "، وكل من الزمـن والمكـان معاً يكونان ما يسمى: " متصل الزمان والمكـان ".
نستذكر فى سياقٍ فلسفى / نفسى / تأريخى / لغوى كهذا مقولة العلامة باشلار، صاحب تكوين العقل العلمى أو العقلانيـة التطبيقية، فى ما سماه: حكمة الوظيفة: "عندما يتوجب وصل الأفعـال سنرى من هذه الزاوية تفوق الروح على الحياة، وسنرى الضرورة التى تُكون فيها الحياة ذاتها للحفاظ على نفسهـا، ولمجانبـة كل مـا يفككهـا".
انطلاقاً من هذا المفهوم الباشلاري، نجد أن منظومة التـواصل التى تضغط الجغرافيات المتـباعدة تجاه بعضهـا، والمسماة بالانترنت، فضلا عن الفضـائيـات، ووسائل الاتصال المرئى والمسمـوع، أسهمت بشكل غير مسبوق فى تصغيـر العـالم، وجعـل التواصـل الحضـارى بين الثقـافات ذا سمـة شموليـة شبـه إجبـاريـة، إذ لا يستطيع ابن آدم الآن أن يغمض عينـيه أو يصـم أذنيـه، للخروج مـن عالـم صغيـر متنقـل بيـن الكمبيوترات الشخصيـة، طبيـعة طاقـة التواصـل تقضـى علـى مظاهـر التفكك الثقـافى ـ بمعناه العالمى ـ فالحـياة لا تتنازل عن ضرورة تكويـن ذاتهـا.
وهنـا يطرح سؤال نفسه ـ فى خضـم متوالـية المفـاجآت الحـضاريــة ـ فلا يكاد ابن آدم العربى المثقف يحيط علـماً أو إلمـاماً بنظام عـلامى مـعرفى جديد، حتى يفاجأ بتحوير أو تطوير نظام مغاير !.
إنه سؤال حضارى محـض، يؤطـر قائمـة من التساؤلات، تنبع منه، أو تؤول إلـيه، وهو يملك مقومات نفسانية وفلسفيـة وأيدلوجـية، مرتبطـة بفضـاء حضـارى عربـى يرتسـم بكـل خصوصـياته العقلانيـة وجدليـاته وتزامنـاته فى بنيـة المتأهة العالمـية الممتـدة بين قطبـى الماضـى / التأريخ ـ الحاضـر / المعاصـرة.
إنه يريد ـ وله الحق كله فى ذلك ـ أن يحــدد موقعه على محور الديمومـات، مع الأخذ بعين الإعتـبـار بأن منظومـة التواصل الكونية / الانترنت لـم تتحـول ـ فى عالمنـا العربـى ـ بعد إلى رغيف المائدة، بل هو ضيف محـاط بهالة من الغرابـة والُرهاب فى كثير من الأحـيان.
فالقوائم الاحصائـية العالميـة تشير إلى أن العالم العربـى مايزال ـ حتى يومنـا هذا ـ يحتـل المرتبـة الاخيرة فـى عدد مستخدمـى الانترنت، ومالكـى الكمبيوتر الشخصى ـ مقارنة بأمريكـا الشمالية وأوروبـا، وحتى الدول الافريقية جنوب الصحراء!.
حرى بنـا الان أن نسأل أنفسنا سؤالا مهماً و مشروعاً بقياسات الوعى الحضـاري:
ما هو موقـع اللغة العربية على شبكة الانترنت ؟
هذا التساؤل لا يتمحور حول الاستقراء الالكترونى لجغـرافيا مفترضـة، وبتعبير آخـر ـ إن أردنا أن نكون أكثر بشاشة فى طرح السؤال الوجودى الصارم ـ: ما هو موقع لغتنا فى ثقافة العولمة أو عولمة الثقـافة ؟
هل تواجههـا معركة وجوديـة ذات طابع قدرى ؟
ونحن ـالناطقين بالضاد ـ هل تَجاوزَنا المـاراثون الكونى " لغوياً " ؟
هل السباق بين ناقة الاعشى والكاديلاك يقاس ب"قدرة الحصان" أم ب"وعى التأريخ" ؟
هل نحن: " لوحة غائبة " ؟ أم: " مساحة طبوغرافية متميـزة " في: فسيفساء العولمة ؟
للإجابة على هذه: " التساؤلات "/الهواجس / المخاوف / الاستجوابات / الشجاعات الادبية ـ لندعها ماشئنا ـ علينا إدراك حدود سلطة العولمة الثقافية، وحدود سلطة ثقافتنا المشتبكة / المتثاقفة مع العولمة، ذلك أن جدلية العولمة هى دراما أزلـية / بنيويـة، ونزعتهـا بسيكولوجية جماعيـة للأنا الحضارى الاعـلى، وإنها لملغومـة بثنائيات ضاريـة: الوجود / العدم، الانا/ الاخـر، الذاتيـة/ الموضوعيـة، الخيـر / الشـر، الوراثة/ التخليـق، الخ.
يعول فى هذه العوارض ـ الاقرب إلى ميتافيزيقيا التاريخ ـ على بينونـة الجسور الواصلة بين عتبتين حضاريتين / فضائين معرفيين/انشطارين توالديين لأنا حضارية واحدة /قطيعتين /تماهيين محتشمين انخراطين محتملين، فى ديالكتيك الزمن المعيش /المفترض.
إنها لمحايثة كالتحدى أقل كثـافة من الواقـع على أنها حاسمة!، وإننا لمنشدون إلى مقاربة إجرائية بين نرجسيـة الحضـارات القديمـة، ونرجسية الحضـارات الحـديثة:
تتفاقم ـ فى الانا الحضارى المتمركز فى لوغوس صورة الذات ـ نزعة اصطداميـة تراوح وتخاتل بين الوعى واللاوعى فى سيرورة التحولات، وهى كفيلة فى أوقات إنسانية حرجـة
بتفتيت حمـاسة الحوار الانسانى الحضاري، ترينا بانوراما التأريخ بكل وضوح أوراماً غير حميدة ـ فى النسيج الحى للحضارات المؤثرة ـ تسهم بتعصبهـا المزعوم لحضـارتهـا فى إضعـاف أو هدم هذه الحضـارة نفسهـا!، وهى مفارقة فلسفية خطيـرة، لانهـا ترتكز إلى أسـاس فلسـفى منقوص، متضخم الانا تضخمـاً مغرقاً فى الكلانية.
ما هو موقـع لغتنا الجميلـة فى عصـر العولمة الصناعيـة الضـروس؟ وملحقاتهـا الثقافيـة و الاقتصـاديـة والسياسيـة، ومشتقاتهـا المعرفيـة، فى هذا المسـار ذى السمة الزلزالية؟
ويزيدنـا خوفـا على لغتنـا سيمياؤها الروحية المميزة، فى عالم مادى صرف، عاجـز عن الاصغـاء لشـيء خـارج مدونات كهـانة الآلة وتعاليـم المختبـر.
إن حالة اللغة العربية فى هذا العالم لتذكرنا بقصيدة الشاعر الاسبانى "لوركا" المسماة: "شاعر فى نيويـورك "، أو قصيدة السياب " جيكـور و أشجـار المدينة "، فضلا عن حالتها بين أبنائها، الذين اتخذ البعض منهـم من لافتة الحـداثـة ذريعة بائسة للتخلى عن كل ما يكبح هذه "الحادثـة " لا "الحداثة " لأن نفسه تسول له أنه: "أكبر من اللغـة " و أكبر من الأسس ولو فى أبسط أشكـالهأ: " النصب و الجر والرفع والأبنية الصرفية " فضلا عن عدم الالمام بسيرورة لغة الشعـر العربى وتحولاته النصية ومنعطفاته الأسلوبية الكبرى والنصوص الانقلابية فى انزياحاتها وأعلام النظم والنثر وممارسة هذه الثقافة ليكون الإنزياح عنهـا واعيـاً ومسوغا بدليل نصى مغايـر مثر ٍمدهش ذى طبيعـة خالدة.
إن التضاد فى حقيقته تدافع متبادلٌ بين مركزيتين، وهذا ينسحب على الأنظمة العلامية المعروفة كافة، وما اللغة العربية إلا نظام علامي، بين ما يزيد عن ثلاثة آلاف.
تحمل الأنظمة العلامية جميعها مقومات بقائها، وعوامل انحسارها فى آنٍ معا، وذلك فى لا وعى الجماعة الناطقة بها، أو المستعمِلة إياها.
وعبر عوارض وتعاقبات معينة، ناجمة عن حياة اللغة وتحولاتها، على صعيد المفردات
والأصوات والتراكيب والدلالات، تتغلّب مقومات القوة على عوامل الضعف، فتسعى لغة معينة " لسان / بالمفهوم السوسيرى " إلى التفوق على نفسها فى إطارها الحضارى المميِّز للجماعة.
هذه المقومات، متغايرة بين الحضارات، قد تكون مقومات سياسية، كما هو الحال فى سيادة السيميولوجيا الفارسية فى مناطق نفوذ الإمبراطورية الفارسية القديمة، ومنها، مملكة المناذرة العربية، ونحو سيادة السيميولوجيا الرومانية فى مناطق نفوذ الإمبراطورية الرومانية القديمة ومنها مملكة الغساسنة العربية.
وقد تكون المقومات اقتصادية، وبها سادت اللغة الإنكليزية فضاءات التعاملات التجارية، لريادة اقتصادية تتمتع بها البلدان الناطقة بها.
وقد تكون المقومات دينية، ولغتنا العربية مثالٌ جلِى لنُهوض النص المُقدّس باللغة، وتمحوُرها حوله بوصفهِ: خُلاصة تجلِّياتها، وانفِجارها التكوينى الكونى الأعظم، ونحن فى غنى عن تبيان ذلك ـ فى سياقنا المبْتسَر ـ فالكتابات / الأعمال / المُدوَّنات / التى خاضت فى أثر القرآن الكريم فى اللغة العربية، أكثر من أن تُعد ـ إن قديما أو حديثا ـ وبعضُها أشهر من أن يعَرَّف به، كدراسات الجرجاني، التى تمخّضت عن نظرية " النظم "، فى كتابه " دلائل الإعجاز "، وهى الجذر العربى الأصيل، لما دعاه " دى سوسير " بـ " النظام"، فيما عدّده من خصائص اللغة، فى مُحاضراته الألسنية الشهيرة، التى نشرها النابهون من طُلابه بعد وفاته تحت تسمية "دروس فى الألسنية العامة "، فأقامت اللغويين المعاصرين ولم تقعدهم، وما نقصده بـ" تمحور اللغة حول النص " هو مركزيته، التى تشد إليها عناصر الكتلة اللغوية الأخرى من " أدب / كلام / مظاهر لهجية / سنن، إلخ ".
فى الجبر الخطى لهذه المقومات / الأوتاد ـ المثبتة للكتلة اللغوية، وفى سياق دراما العولمة، احتفظت بعض الألسن بخصائصها فى الكلام الحي، والرموز، فيما انجزرت أخرى إلى منابعها الاولى، لتراوح فى دوائر ضيقة، ومدارات مغلقة، من: التجمعات النادرة، فى مدونات عابرة.
بذا راوحت عتبات لغوية فى مواضعها وتقدمت أخرى على استحياء، واكتسحت أخرى فضاءات لا عهد لها بها، فى مد المقومات التى ترصنت بمناسبته لمُركّب: المكان / الزمان، ومنها لغتنا العربية، التى طبعت بطابعها الثقافى الكثير من اللغات والآداب، لا فى المشرق وحده، بل: فى عمق الغرب نفسه، وإن كان ذلك قد تم بدرجة أقل وضوحا مما هو عليه فى المشرق.
وهنا، تطالعنا تلاقحات حضارية فذه، فرضتها الحضارة العربية بمرونتها، وازدواجيتها الروحية / المادية، الخلاقة.
تجسد ذلك فى مدونات كثر، نمثل لها بـ: " الديوان الشرقى للشاعر الغربى "، وهو من: " ألعاب " غوته الألماني، و:الكوميديا الإلهية " وهى من ألعاب دانته الإيطالي، فضلا عن أعمال/ألعاب: لوركا، وخوان رامون خيمينيث، وشوبنهاور، وغيرهم من رموز الحضارة اللغوية الغربية.
هكذا فى متوالية الأزمنة، يُتَوّج " ابن آدم " المجرد من كل الحراشف والطفرات الطارئة، المغموس فى نقاوة البدايات بسلطة " اللامرئى / الأليف / المسالم / الإنسانى / اللامحدود / المكتسب، لا بمعنى: الإحلال، وإنما: بمد جسور متوازنة، بين: العتبات، لتحقيق التناغم شبه المستحيل بين: الذاتى و الموضوعي.
فى سياق ثقافى تواصلى تلقائى كهذا، سنجد أن ما يطرأ على اللغة لا تمثله " مرسلات " عابرة كالشهب في: احتكاكات الأمكنة / الأزمنة ـ المفترضة، عبر ممالك السنتيمترات.
إن " الطوارئ"، وهي: " ظُهوراتٌ " حتمية، في: البنى العميقة و السطحية، للأنظمة العلامية، تُموْضِعُها / تُـمَـظْـهِـرُها: النُّصوص الفارِقـة لحضارةٍ ما،طريقة نظم اللغة، ومستويات التغيير الطارئ على الحضور المُعجمي، وضمنه: الإنزياحات الآنية، ذات الخصوصيـة النظميـة، القابلة لأن تتحول إلى إنزياحٍ أُفُقى جماعى عن " العمودية المُعجمية ".
نجد فى العربية مرنة تجددية، وقابلية تكيُّفية هائلة، تجعلها قادرة على التجاوز الإبداعى لفِخاخ الطفرات وبذلك تتخلص من قشرتها الخارجية باستمرار، كل خمسين عاما تقريبا، لتخرج من هذه العملية التوالدية الحيوية ـ البالغة الأهمية فى حياة اللغات ـ كائنا حيا أكثر تكاملا وتكيفا مع محيطه المعرفى و الأنطلوجي، وأكثر شبها بزمانه ومكانه، وأقدر على تمثلهما.
تحافظ اللغة من خلال هذا التجاوز على " الديمومة الروحية " للأجيال، غير متخلية عن حسها التأريخي، و" حدسها الحضارى ".
إنه لمن الواجب على الإنسان العربي، فى خضم المواجهات الحضارية غير الإختيارية التى تفرضها العولمة، أن يتمكن من وعى ذاته، ووعى حدود الحوار الإنساني، ليتمكن من التمييز بين اكتساب الطوارئ الحضارية التثاقفية الحسنة، وبين " الإحلال " الذى يسلخ الحضارات من كينوناتها، برغبتها، ومباركتها، بهدف اعتناق ما يُخدِّر العقل من " إدهاشات " الغرابة.
عليه أن يدرك كونه غير مطالب بالإنسلاخ من جلدته، وأبناء جلدته، ليدفع عن " الأنا " وصمة التخلف الفكري، ويلحق بركب العولمة الضَّروس، إذ ليس ثمة من عارض عقلاني، يخلق أى شكل من أشكال التناقض المفتعل بين الأنظمة العلامية لفضاءات نامية، ونظيراتها فى فضاءات صناعية متقدمة، ليس على أبناء العربية كلهم أن يكونوا " سيبويه " أو "ابن جنى " أو " أباعلى الفارسى "، ما عليهم هو الإبقاء على القدر الأدنى من التواصل معها، بوصفها " هوية وجود " لا يمكن الإنفصال عنها إلا من طرف واحد، وهنا سنرى بكل وضوح الأفق الرحب الذى تفتحه هذه الهوية لأبنائها، ليمتلكوا ناصية لغات أخرى، شريطة ألا يتوهموا أنهم "لم يعودوا عربا " فى نظر أبناء تلك الحضارات،إن سيرورة اللغات والآداب ترينا باستمرار أن الوصول إلى العالمية لايمكن أن يتم إلا عبر ملامح ذاتية أبرزها: " المكان ".
إن الإفادة الإيجابية من واقع تواصلى كونى معيش سيخفف من " الحرج النرجسى " المصاحب لـ " تعرف الحضارات على بعضها "، وسيجعل الإنسانية تقترب أكثر فأكثر ـ على الصعيد التحاورى لا التصادمى ـ من مفهوم " الأمة الواحدة " التى كانت عليها البشرية فى الجذر التكويني، وهى النظرية القرآنية التى تبشر بالإنسان المطلق، وتؤكـد ـ فى سياقها الواقعى اللاحلمى ـ على أن الإنسات جوهر ٌ لا مظهـر، فإنسانية المظهر لا تحول دون تحول الجوهر إلى جوهر شيطانى أو بهيمي.
أما إنسانية الجوهر فهى الخالدة، المقدسة المباركة، بقطع النظر عن المظهر الفـانى للجسد العابر.
وتبدو العولمة الثقافية مغلوبة على أمرها، ونحن نعنى الثقافة اللغوية الأدبية، لا الجانب الأزيائى السطحى من الثقافة، على العكس من العولمة الإقتصادية، وغيرها من تمظهرات وتموضعات العولمة.
تطمح العولمة الثقافية باستمرار إلى "تعزيز" نرجسية الحضارة المُرسِلة، عبر الحيل الإدهاشية المتاحة، والمرسَل إليه حر، مخير غير مسير فى استقبال الرسالة، وأن يمنحها القدر الذى يراه مناسبا من العناية، وهذه العملية التواصلية الإيجابية المُصاحِبة لسلبيات العولمة، تتيح للمستقبِلين امتلاك أدوات جديدة، ذات وظيفة ترميمية وترصينية للذات، تجعلها أكثر قدرة على التأثير، وتحقيق الإدهاش المُتعادِل مع المُرسَلات.
إن اختزال الفضاء، أو تكثيفه، بصيغته المجردة، لا يُحتِّم تضخم القيمة المعرفية لإجراءاته، فالأمر لا يتعلق بهذا، قدر ما يتعلق بكون العولمة الثقافية ـ وليس غيرها من مستويات العولمة ـ تضع ـ بشكل أو بآخر ـ الذات الإنسانية الأصلية النقية البدائية، فى مواجهة تجسداتها الجغرافية و الإجناسية، أو " تجلياتها المكانية "، ففى أعماق الإنسانية، يقبع ذلك الإنسان النقى الواحد، تحت طبقات متراكمة من الآيديولوجيا و فضاءات العلامات و الفلسفات، تعيد لنا العولمة ـ التى اطلقتها الحضارات باستمرار تحت عنوانات اصطلاحية أخرى ـ رسم تعملُق الأسرة البشرية الأولى/النواة الإجتماعية الضاربة فى اللاوعي.