مجلة العربي الكويتية
1 نوفمبر 2003
حامد طاهر
اللغة العربية في حالة خطرة من التدهور وما لم نسع للنهوض بها سوف نواجه تحدياً خطيراً يفقدنا هويتنا.
وصلت حالة اللغة العربية الفصحى على ألسنة أصحابها إلى مستوى لم يعد يحسن السكوت عليه, ولا يقتصر هذا فقط على أولئك الذين درسوها دراسة عابرة, وإنما يسري أيضا على غالبية المتخصصين فيها, والمشتغلين بها, ممن تتطلب مهنتهم ضرورة استخدامها كالمعلمين, والمحامين, والإعلاميين وغيرهم, بل إن الكتابة نفسها باللغة العربية الفصحى قد أصبحت هي الأخرى تعاني من الهبوط, فقلما تقرأ كتاباً أو مقالاً أو تقريرا باللغة العربية دون أن تجد صاحبه يقع في أخطاء متعددة, لا تتصل بضعف الأسلوب فحسب, وإنما قد تؤدي أحيانا إلى قلب المعنى تماماً.
ولا يعني هذا أن حالة اللغة العربية الفصحى حالياً هي أسوأ من حالتها في القرن أو القرون الماضية. فنحن نعلم أنها قد تعرضت لفترة طويلة من الإهمال, الذي نتج عنه فصلها جزئياً أو كلياً عن ميادين الحياة العامة, مع غلبة اللهجات العامية عليها, بالإضافة إلى ما وفد إليها من اللغات الأجنبية, واندفاع عدد كبير من أصحاب العربية إلى إجادة هذه اللغات, وإهمال لغتهم الأصلية.
ومما لاشك فيه أن انتشار التعليم في أنحاء الوطن العربي خلال القرن العشرين قد زاد من شيوع اللغة العربية الفصحى, ولكنه شيوع لا ينهض على أساس متين من المعرفة الصحيحة بها, واستخدام الطاقات الهائلة الكامنة فيها.
والملاحظة التي يؤكدها الواقع المشاهد أن المتحدث باللغة العربية الفصحى يعاني معاناة شديدة: أولاً من خشيته من الوقوع في الخطأ (أي ما يخالف القواعد التي يعرفها بالفعل, وأحيانا لا يعرفها) وثانيا من صعوبة إيجاد المفردة الصحيحة للمعنى الذي يقصده, وفي أحيان كثيرة لا يوفق في ذلك (مثل جمع أكفاء بتشديد الفاء للمفرد كفء), وثالثاً من عدم صحة تركيب الجملة العربية لكي تؤدي معنى معيناً أو فكرة محددة. ومن الواضح أن جوانب هذه المعاناة تنعكس مباشرة على تفكيره الذي ينبغي أن يوصله للآخرين من خلال اللغة, وهنا نرى أنه بدلاً من أن تصبح اللغة وسيلة سهلة لنقل الأفكار وتبادلها تتحول إلى عقبة مروعة يسعى المتحدث إلى تجاوزها, ومحاولة التغلب عليها.
اللغة.. مفتاح التراث
أما بالنسبة إلى اللغة العربية التي يستخدمها الخطباء والوعاظ فهي لغة تقليدية, ثبتت معانيها في قوالب شبه محددة, ولم يعد على المتحدث بها إلا حفظها عن ظهر قلب, ثم إعادة إلقائها على المستمعين بصورة رتيبة ونغمة مكررة, دون أن يراعي حالة التواصل الحي التي ينبغي أن تكون بينهم وبينه.
ولا نريد أن نستطرد في أن أحد أهم الآثار المترتبة على انعدام هذا التواصل ما نراه من انفصال الشباب عن المفاهيم الدينية المعتدلة التي ينبغي أن تسود في المجتمع من خلال لغة عربية معاصرة وقريبة من مداركهم.
والخلاصة أن حالة اللغة العربية الفصحى لا تسر محباً لها, أو حريصا على النهوض بها لكي تقف بكفاءة بين لغات العالم الآخذة في الانتشار, مع أن اللغة العربية كانت أولى من غيرها بالحركة والذيوع حتى تستجيب للمحتاجين إليها في شتى أنحاء العالم, ممن يهمهم معرفتها باعتبارها مفتاح التراث العربي الإسلامي, فضلا عن إمكان استخدامها في مؤتمراتهم ولقاءاتهم الدولية (من المكاسب التي تحققت أن اللغة العربية أصبحت إحدى اللغات الرسمية في الأمم المتحدة وجميع المنظمات المنبثقة عنها).
ومما يزيد الحاجة إلى النهوض باللغة العربية الفصحى ما يبدو حاليا من رغبة جمهوريات إسلامية بأكملها, خرجت من سيطرة (الاتحاد السوفييتي) على مقدراتها, في أن ترتبط بالتراث العربي الإسلامي, ولا تجد وسيلة لذلك أفضل من اللغة العربية. ولدينا بالفعل طلبات كثيرة من هذه الجمهوريات لمساعدتهم في تعلم اللغة العربية.
إن الوعي بأهمية المشكلة, والإحساس الصادق بضرورة إيجاد حل لها ينبغي أن يدفعنا للتفكير في بحث أسبابها, والوقوف على عوامل تدهور المحاولات والتجارب السابقة أو ضعفها, مع الاستفادة من كل جوانبها الإيجابية, والخروج من ذلك بنتيجة جديدة تكون قابلة للتطبيق العملي.. من خلال وضع (منظومة) متكاملة للغة العربية الفصحى تكون دليلا عملياً, ومرجعا مفيدا لكل من المعلمين والمتعلمين معاً, ولأصحاب اللغة أنفسهم أولاً, ولغير الناطقين بها ثانياً.
خطة لإنقاذ اللغة
كيف يحدث ذلك? لابد أولاً من الاتفاق على مجموعة من المحاور التي تتطلب العمل الجاد على مستوى الوطن العربي كله, ولا ينحصر فحسب في إطار دولة واحدة وهي:
أولاً: أن النهوض باللغة العربية عمل مشترك, يتطلب جهداً من المعلمين يقابله جهد مماثل من المتعلمين. فالعلم لا يقدم في ملعقة من ذهب. ولابد لمن يريد إتقان لغة ما أن يقصد إلى ذلك برغبة صادقة, وأن يعطي لها من وقته وجهده الكثير.
ثانياً: أن معلمي اللغة العربية لابد أن يتم إعدادهم إعدادا جيدا بحيث يكونون على وعي كاف بتاريخها, وتطورها, وآدابها, وعلاقتها مع اللغات الأخرى. وذلك إلى جانب التمكن التام من قواعدها وكيفية تطبيقها والأمثلة التي تشذ أحياناً عن القاعدة.
ثالثا: توافر منظومة متكاملة لتعليم اللغة العربية, والتي ينبغي أن تحتوي على: قاموس لمعاني الألفاظ, وقاموس للأفعال وتصريفها وإسنادها للضمائر, وقاموس للأدوات وطرق استخدامها, وكتاب مبسط للقواعد والأمثلة عليها.. وأخيراً كتاب للمختارات من النثر العربي والشعر العربي, يكون بمثابة منبع لغوي, يستمد منه كل من المعلم والمتعلم النماذج التي يقاس عليها, والعبارات التي يمكن أن تتم محاكاتها.
رابعاً: إعادة الاهتمام في المدارس بمادتي: التعبير (الشفوي والتحريري), والإملاء الذي يمكن أن يندرج تحت ما يسمى بفن الخط العربي.
خامساً: تخصيص جزء من النشاط المدرسي, يمكن أن تعطى له درجات, لبعض الفنون التي تساعد على تحفيز النشاط اللغوي مثل الشعر, والقصة, والإلقاء, والمناظرات, والصحافة, والتمثيل المسرحي, وكتابة المقالات العلمية المبسطة.
سادساً: رصد المكافآت التشجيعية للمتفوقين في الأداء اللغوي بمختلف صوره, مع الرعاية الخاصة للموهوبين في هذه المجالات, وتمكينهم من الوظائف المناسبة لقدراتهم وكفاءتهم بعد التخرج.
سابعاً: قيام الإعلام بدور مساعد, يتمثل في ضرورة الاهتمام بالأداء اللغوي الصحيح والحد من التلوث اللغوي الهابط, وتقديم النموذج والقدوة من خلال المذيعين, والمتحدثين, وكذلك من خلال الأعمال الدرامية, ذات التأثير الواسع بين الجماهير.
وأخيراً لابد من إدراك قيمة اللغة العربية كوسيلة ربط بين تلك الكتلة السكانية التي أصبحت تتجاوز 220 مليون نسمة, وتحتل المساحة من شواطيء الأطلسي إلى الخليج العربي, وتحتوي على إمكانات هائلة للتواصل العلمي والثقافي, إلى جانب التبادل الاقتصادي, فضلا عما يربط بين أبنائها جميعاً من روابط الدين والتاريخ, ويجمعها في السراء والضراء, ويوحد بينها في مواجهة تحديات المستقبل.