Arabic symbol

 

 

 

 

 

 

 

أهلا بكم من نحن فلاسفة أبحاث فلسفية الخطاب الفلسفي أخبار الفلسفة خدمات الفلسفة
فلاسفة العرب
 
بحث مخصص

 

 

 

 

 

 

 

 

 

لماذا فشل مشروع النهضة العربية؟

 

 

 

 

Alsharq_Alawat_Logo

هاشم صالح

جريدة الشرق الأوسط

9 مايو 2003

ليس من السهل الاجابة عن سؤال كهذا. واعتقد انه يتجاوز مقدرة باحث واحد ايا تكن امكانياته. ولكن بما اننا جميعا معنيون بهذا الوضع الغريب العجيب الذي وصلنا اليه، فإن كل واحد يحاول ان يدلي بدلوه بين الدلاء ويقدم تفسيره الخاص، بل حتى المثقفون الاجانب اصبحوا يطرحون هذا السؤال ويستغربون مدى الانهيار الحاصل في العالم العربي بعد مائتي سنة على تدشين مشروع النهضة على يد محمد علي ابتداء من مطلع القرن التاسع عشر.

لنعد قليلا الى البدايات الأولى. يتحدث بعض المفكرين المعاصرين عن مرحلتين اثنتين فيما يخص علاقة العرب بالغرب: ما قبل عام 1870 وما بعده، أو ما قبل الاستعمار المباشر وما بعده، اذا ما استثنينا الجزائر بالطبع، التي كانت قد استعمرت عام (1830). ما قبل هذا العام كانت عوامل النهضة والتحديث محلية. كان المثقفون العرب الذين جاؤوا الى اوروبا في بعثات علمية ونهلوا منها العلم قد عادوا الى بلادهم ولديهم رغبة عارمة في التغيير والتحديث. فالحكم الدستوري الذي شاهدوه هناك ما كان بامكانهم الا ان يقارنوه بالحكم التعسفي او الاعتباطي السائد في الشرق. وقل الامر ذاته عن الحريات العامة، والعدالة العلمانية، وحرية التفحص النقدي للافكار الموروثة والمعتقدات، والتعليم الحديث، الخ.. كل هذه الاشياء اعجبتهم وبهرتهم بحق عندما رأوها في باريس بشكل خاص. وبعض المثقفين العرب كانوا يعترفون للغرب بتفوق ساحق ليس فقط في مجال التكنولوجيا العسكرية. وانما ايضا في كافة المجالات ما عدا مجالاً واحداً: الدين! ما كان بإمكانهم آنذاك ان يفهموا ان الغرب لم يتفوق عسكريا وسياسيا وحضاريا الا بعد ان خرج من المفهوم التقليدي للدين والتدين. ونحن بعد مائتي سنة من ذلك التاريخ لا نزال نراوح في نفس النقطة. فأنت يستحيل عليك ان تقنع قسما كبيرا من المثقفين العرب المعاصرين بأن التحديث ينبغي ان يشمل ايضا الفكر الديني. اقول ذلك على الرغم من كل ما حصل من أهوال وكوارث في العشرين أو الثلاثين سنة الاخيرة وليس فقط بعد (11) سبتمبر. وعلى الرغم من ان العالم كله اصبح ينتظرنا على هذا المنعطف ويركز ابصاره علينا الا ان بعضهم يرفض ان يولي لهذه المسألة الاهمية أو الخطورة التي تستحقها.. ولكن لحسن الحظ فإن البعض الآخر أخذ يتحرك في الاتجاه الصحيح منذ فترة، وربما تزايد العدد اكثر فأكثر لاحقاً.

ذلك ان السؤال الذي لم يستطع مفكرو النهضة الاولى ان يواجهوه، والذي ظل معلقاً على الرف مدة مائتي سنة، عاد للظهور من جديد الآن وبالحاح اشد. وهذا دليل على انك لا تستطيع ان تقفز على المشكلة وتتوهم انك حللتها بمجرد القفز عليها أو فوقها. فالمسألة ـ اية مسألة ـ لا تحل الا بعد معاركتها، الدخول فيها، مواجهتها وجها لوجه. ولكن بما ان المسألة الدينية هي من أخطر المسائل واكثرها حساسية. فإنه كان يصعب على مفكري النهضة الاوائل ان يواجهوها وجها لوجه. اقول ذلك على الرغم من ان بعضهم كان اكثر جرأة منا الآن بكثير. ويرى بعضهم ان العقبة الكأداء التي اصطدم بها مشروع النهضة طيلة القرن التاسع عشر وحتى منتصف القرن العشرين (اي طيلة ما يدعى بالعصر الليبرالي العربي) لا تزال هي نفس العقبة التي نواجهها الآن. وهذا دليل على ان الصخرة التي تكسر عليها مشروع النهضة العربية لا تزال هي هي. بمعنى آخر فإن النهضة العربية لن تنجح الا اذا دخلنا في صلب الموضوع وقدمنا تأويلا جديدا لموروثنا العقائدي، كما فعل فلاسفة التنوير الاوروبي مع تراثهم المسيحي. وهذا ما لا نتجرأ عليه حتى الآن خوفا من عواقبه!.. اقول ذلك على الرغم من ان هذا التأويل الفلسفي الجديد لن يؤدي بالضرورة الى نفس الحل ونفس النتائج التي توصلت اليها اوروبا. فنحن قد نتوصل الى معادلة جديدة، أو تركيبة توفيقية جديدة تصالح بين الاسلام والحداثة بشكل مختلف، بمعنى آخر: بامكاننا ان ننقذ العلم والايمان في حركة واحدة، ولا نضحي بأحدهما لصالح الآخر. فلماذا كل هذا الخوف اذن؟ لماذا كل هذا الرعب؟ لأن التخلص من التأويل القديم الذي تربينا عليه منذ نعومة اظفارنا والذي ورثناه عن آبائنا واجدادنا منذ عصور الانحطاط والجمود الفكري لا يمكن ان يتم بدون نزيف داخلي حاد، بدون زلزلة نفسانية، أو زعزعة كيانية.. وبالتالي فالمعضلة الكبرى لا تزال أمامنا وليست خلفنا. وليكن الله في عوننا..

اما بعد (1870) فإن العلاقة مع أوروبا تعرضت لبعض المتغيرات والتحولات. فعلى المستوى التكنولوجي والاقتصادي ظهرت بعض المستجدات: كشق سكك الحديد للقطارات، وتطوير زراعة القطن، وشق قناة السويس، فيما يخص مصر. وكان لذلك، انعكاسات اجتماعية وسياسية وأولها بدء الهجرة الاوروبية الى مصر وبخاصة الى الاسكندرية. وبدءاً من تلك اللحظة لم يعد لمصر من خيار آخر كما يقول أنور عبد الملك، في بحث مهم. فالغرب اصبح داخلها لا خارجها وابتدأ عهد الاستعمار المباشر. وما لبثت ان فقدت استقلالها السياسي عام (1882). وكان الذي نعرفه حتى ظهور حركة الضباط الأحرار بقيادة عبد الناصر عام (1952). بعدئذ أغلق العصر الليبرالي العربي لكي يحل محله العصر القومي العربي. وهذا الاخير اغلق بوفاة جمال عبد الناصر عام 1970 لكي يحل محله العصر الاصولي. ونحن الآن، وبعد كل الانهيارات الاخيرة المتجسدة ببن لادن وصدام، نقف على ابواب عصر جديد، لمَّا تستبن ملامحه بعد.

فهل سنعود الى العصر الليبرالي من جديد؟ البعض يعتقد ذلك، وانا منهم. ولكن هذه العودة لا تعني اننا سنقلد حرفيا ما تم قبل مائتين أو مائة وخمسين سنة! فالعودات الى الوراء مستحيلة بهذا المعنى. والتاريخ لا يعيد نفسه بشكل حرفي أو كامل ابدا. يضاف الى ذلك ان الفلسفة الليبرالية تعرضت لمتغيرات كثيرة في الغرب ذاته اثناء كل هذه الفترة الطويلة. والحداثة انكشفت نواقصها وعيوبها، ولم تعد معصومة كما كان يتوهم الجيل النهضوي الاول الذي انبهر بها.. وبالتالي فليبرالية اليوم أو حداثته غير ليبرالية الامس. نقول ذلك على الرغم من ان الكثير من الاسئلة التي طرحوها سوف يعاد طرحها من جديد، ولكن بصيغة أخرى. مهما يكن من أمر فالشيء المؤكد، أو الشيء الذي نأمله، هو ان البحث عن المعنى والحقيقة سوف يتحرر من الاكراهات التقليدية الثقيلة التي تضغط علينا منذ مئات السنين. الشيء المؤكد هو ان المجتمعات العربية سائرة نحو التحرير الداخلي بفعل قوى داخلية وخارجية في آن معاً. الشيء المؤكد هو ان الامور لا يمكن ان تبقى كما هي عليه الى الابد.. ولكن نأمل ان يحصل هذا التغيير بشكل تدريجي معقول، وخطوة خطوة، كما يحصل حاليا في قطر، أو السعودية، أو غيرهما..

فهل سيقدر المثقفون العرب على مواجهة المرحلة القادمة؟ هل سيقبلون بممارسة حرية الفكر والمناقشة فيما بينهم بدون مصادرات مسبقة أو تخوين أو تكفير لبعضهم البعض؟ هل سيخرجون من هذه الادلجة العقيمة التي أوهمت القوميين كما الاسلاميين بأنهم يمتلكون الحقيقة المطلقة التي لا تناقش ولا تمس؟ بهذا المعنى فإني ادعو الى عصر ليبرالي عربي جديد، والليبرالية هنا لا تعني الميوعة الفكرية أو عدم اتخاذ موقف واضح وحاسم من المشاكل والقضايا. وانما تعني ان هناك عدة تيارات وحساسيات داخل كل مجتمع بشري، وانه لا أحد يمتلك لوحده الحقيقة المطلقة. فهناك مكان في المجتمع لجميع الاصوات، وجميع الاحزاب والمذاهب الفكرية. ولا ينبغي لتيار واحد ان يقمع جميع التيارات الأخرى ويخنقها.