مطاع صفدي
جريدة القدس العربي
5 يونيو 2006
عاني الفكر النهضوي
العربي من إشكالية بنيوية كادت تغيب ملامحها عن رؤية أكثر المشتغلين علي
مفاهيم التخلف والتحديث، عبر أجيال من القرنين الأخيرين.
فلم يكن ثمة
تنبّه واضح للفصل بين النهضوي والسياسوي الراهن. بما يعني أن أسئلة النهضة
قلما كانت متميزة عن الظروف الآنية المحيطة بها، ومن أهمها ولا شك ضغوط
التحديات السياسية التي كانت غالباً ما توصف بكونها تحديات مصيرية، تتعدي
الهمّ الفكري الخالص، كيما تتناول وجود الأمة واستمراريتها عينها. وهو أمر
يكاد يكون مألوفاً ومفهوماً بالنسبة لأمة واقعة دائماً تحت تسلط القوي
الأجنبية ذات التميّز بعوامل التفوق الحضاري التي حُرمت منها هي لأسباب
عديدة، وطيلة عصور مغرقة في القدم.
فكان الوعي النهضوي مشدوداً دائماً
علي وتيرة وحيدة. يحتلّها عنفُ المضاهاة بين الذات والآخر. إنه ذلك العنف
الذي يغذي سيكولوجية الإضطهاد الجمعي تحت وطأة الشعور بالدونية المسلوبة
الإرادة، إزاء طغيان الآخر، ليس بأدوات سيطرته المادية المباشرة فقط، ولكن
كذلك بأسرار الشخصية الحضارية المعقدة والغامضة، القائمة وراءها ـ هذه
العلاقة الضدية بين الذات والآخر تحكّمت في تأسيس الدوافع الأولي للحراك
العام الموصوف بالإجتماعي. الأمر الذي أعاق نشأة الفكر بما يرجع أولاً
لذاته. فكان انشغال النخبة الثقافية بابتكار الحلول الآنية لتراكم المشكلات
العامة الراهنة والطارئة ـ يجعل النهضة في منأي عن طرح الأسئلة الأساسية،
المتعلقة بالعقل العربي نفسه الذي يسعي إلي فهم الواقع والتعامل معه. وفي
حين تقع المتغيرات الموضوعية من سياسية واقتصادية وحتي العسكرية من حول
الانسان العربي، الا أن طريقة وَعْيه لها تظل في منأي عن مساءلتها لأجهزتها
المعرفية، وقد راحت تمارس عاداتها الذهنية التقليدية، خاضعةً لذات المعايير
التي يتبناها الفهم الجمعي التقليدي لأشياء العالم من حوله. ما يمكن
التعبير عنه فلسفياً بالقول إن الحالة اللامعرفية، أو ما قبل المعرفية
تتابع طغيانها علي الحالة المعرفية البعدية اللاحقة بها. ما مؤدّاه أنه إذا
كان العقل يري إلي العالم من خلال منظار أسود، فسوف يستمر في رؤيته مظلماً،
وإن كانت تجتاح العالمَ عواصفُ الأنواء والأضواء من كل جهة. إن فهم العالم
لا بد أن يكون عالمياً كونياً من طبيعة موضوعه، بينما ينوء الوعي العربي
تحت وطأة ظروفه الخاصة.
لذلك كانت ثنائية الذات والآخر التي تحكمت في
مسيرة النهضة، تفجّر مراحل جدليتها التاريخية عبر معارك عقيمة لا طائل
تحتها. ما دامت لا تستطيع أن تتعامل مع الآخر إلا بذات أنظمتها المعرفية
التي تتعامل بها مع نفسها وتدير شؤونها بحسبها. فراحت كل حقبة في تاريخانية
النهضة تعيد إنتاج حصائل عين الحقبة التي سبقتها. ذلك أن الفكر النهضوي كان
معاقاً باستمرار، سواءً اتجه إلي تفكيك عقد الذات والكشف عن آليات تكوينها،
أو اتجه نحو فهم الآخر في محاولة لتخطي ممارساته الضدية، وصولاً إلي سبر
جذور تفوقه. فالأسئلة المعرفية معطلة تحت وطأة البحث عن وسائل الدفاع
الآنية لدي الذات للرد علي تحديات الآخر الذي غالباً ما يملأ الفضاء العربي
بالمعارك الحدّية خلال غزواته الاستعمارية أو هجوماته الحضارية المتواصلة.
من هنا كان وقوع الوعي النهضوي تحت وطأة إشكالية التقليد وتظاهرات
المماثلة، وحالات التماهي مع الآخر، بالرفض الحدّي تارة، أو تجاهل إشكالية
العلاقة أصلاً، والاعتراف بخطرها تارة أخري، يشكل سيكولوجية معقدة متراكبة،
مانعة مقدماً، للبحث عن أية عملية تجسيرٍ تواصليةٍ سليمة بين نشوء وتكوّن
أسئلة الذات عبر الآخر، وبين عملية اكتساب وتنمية الأجوبة التي تخصّ الذات
وحدها باستقلال أنطولوجي عن عنف الثنائية الصراعية عينها بين القطبين؛ بحيث
أن أصول التقدم وشروطه ما كانت لتنبع من ظروف المجتمع وإمكانياته الخاصة.
فجدلية المثاقفة كانت ممتنعة عن التحقق التلقائي. وكان البديل الدائم عنها
هو سهولة التقليد. إذ إن المثاقفة تتطلب إمكانية التبادل. في حين أن
المجتمع المحجوز في اسار تأخره التاريخي عندما يُفاجأ بكل فعاليات الآخر
المتقدم عليه في كل شيء، لا تسمح له صدمة المفاجأة المستمرة أن يتجاوز عتبة
رد الفعل الغريزي، المتمثل في الاندفاع وراء جاذبية التقليد المباشر،
القائم فقط علي فعل الأخذ من الآخر، دون القدرة علي إعطائه ما يقابله.
فالتقليد هو أخذ بدون عطاء، بينما لا تولد المثاقفة إلا من جدلية الأخذ
والعطاء معاً. فالهوة قاطعة بين الموقفين: التقليد والمثاقفة. وقد يتمادي
الأول حتي التغلغل في نسيج الثاني. وكثيراً ما تكون علّة تعثر الفعل
النهضوي ناجمة عن ممارسة المثاقفة كامتداد لآليات التقليد عينها، ولكن عبر
التباساتها بمظاهر التقدم الزائفة.
في حقبة الانبهار الأول باكتشاف
الغرب، سيطرت ثنائية أوروبا والشرق علي بدايات الفكر النهضوي. فاحتلت
أوروبا موقع النموذج الذي يفرض علي الآخر أفعال المضاهاة بين أحواله
المتردية ومزايا النموذج الطاغي. والمضاهاة لم تكن تخرج عن المقارنة بين
مظاهر القطبين، لا بهدفِ تفكيكِ عوامل كل منهما، بقدر ما كانت المقارنة
مشفوعة بإطلاق أحكام القيم من تحبيذٍ وتعظيم للآخر أو للذات، أو من رفض
وتسفيه للمعتقدات والمسالك العامة والفردية. كانت الدوافع نحو المماثلة إلي
درجة التماهي مع النموذج المتفوق، تعمّق من جهةٍ الشعور بدونية الذات، ومن
جهة أخري تحرّض علي الممانعة والمدافعة بتطوير نزعات الرفض والاستعلاء
المعاكس، والتقهقر نحو جنائن الماضي المفقودة. وفي مثل هذه الظروف البائسة
من الانغمار تحت موجات أحكام القيم الصادرة مرةً بحق الآخر، ومرةً أخري بحق
الذات، ما كان مقدراً للفكر النقدي أن يولد، أو يستقل عن سلطة المضاهاة
الفورية.
إن السؤال المعرفي الذي طرحه شكيب أرسلان عن سبب تفوق الغرب
(المسيحي) وتأخر الشرق المسلم، لا يزال معلقاً في الفراغ. ولم تأت الأجوبة
عليه، وبدءاً من صاحبه نفسه الذي أعلنه، باكتشافات فكرية أو بنيوية واقعية
إلا من خلال سيطرة لثنائية جديدة، ذات رنة بلاغية. وهي الأصالة والحداثة،
وتناظر ثنائية الذات والآخر. فتغدو الذات محلاً مرجعياً للأصالة، ويظل
الآخر مالكاً حصرياً للحداثة، وموزّعاً لحصص منها علي بقية العالم. وبذلك
فات الوعي النهضوي، في مختلف حقباته، طرح إشكالية الحداثة من أصولها
الوجودية (الأنطولوجية)، تحت وطأة طغيان التقييم المعياري الذي يمارسه
الفرز الاحتكاري لمصطلحي الأصالة والحداثة، وذلك كلما لاحت في منعطفات
الحدث التاريخي، ملامح موضوعية لثقافة التأسيس في المختلف وضرورتها المطلقة
الحيوية بالنسبة لتحولات المصير العام، كما تتبينه النخب الفكرية، من أزمة
كارثية إلي أخري. فكيف يمكن الكلام عن الحداثة بدون عقل حداثوي، يكتفي
بوظيفة التقاط أقانيم وطقوس وشعارات تتداول أشباه الأفاهيم الشائعة عن
التقدم والتغيير، دون أن يكون العقل هو نفسه منتج الأفكار التي تغّيره، قبل
أن يكون متلقياً لأفكار سواه.
الواضح أن إشكالية الحداثة، ترجع أساساً
إلي إشكالية العقل التي لم تطرح لدي مفكري النهضة عامة إلا من خلال ما
ينبغي تبنّيه سواء من الأفكار أو المذاهب وصولاً إلي الأيديولوجيات وعصرها،
أو ما لا ينبغي الأخذ به. لم يجر التنبّه إلي المبدأ القائل أن العقل
الحداثوي هو ما ينبغي أن يكون أولاً موضوع استفهامه البدئي لذاته عبر مختلف
إنتاجاته. فقد اقتصر التعامل مع العقل بصورة عامة، وليس الموصوف بالحداثوي
بَعُد، كما لو كان جهازَ اختيارٍ وانتقاءٍ للأفكار الجاهزة التي يلتقطها من
لدن متحفيْن أحدهما لبضائع الغرب، والآخر لمأثورات التراث. فبعد إفلاس كل
جيل من طوائف هذه الاستعارات، يعود العقل إلي اكتشاف غربته الأولي إزاء كل
ما كان استعاره من بضائع الآخرين وألصقه بكيانه، كما لو كان من صنعه ومن
علاماته. لكنه سرعان ما يغطي غربته السابقة باستعارة أدلجات أخري من خارجه.
لا يكشف تاريخُ الأفكار النهضوية عن حركة نمو أو تطور في مسيرة وعي متكامل
بقدر ما تبرز المشاهد الثقافية عبْر نقلات بين أنظمة ذات صياغة سياسية أكثر
منها فكرية، تلبي حاجات آنية مرتبطة بمتغيرات الظروف العامة المحيطة
بالمجتمعات خلال مرحلة الاستعمار. وما جاء بعدها من مرحلة الاستقلالات
الوطنية وبناء الدولة الحديثة. فقد تغلبت علي هذه المسيرة آلية استعارة
حلولٍ وأجوبة لمشكلات الآخر الغربي علي أنها حلول صالحة لمشكلات الذات.
بمعني أن التفاعل مع الآخر، لم يولد تفاعل الذات مع إنتاجاتها. لم يحدث أن
حاولت الذات التعرف إلي نفسها، والكشف عن بنيتها، إلا من خلال ما كانت
تلتقطه صدفةً من بيانات الآخر عن أحواله الخاصة به. فكانت هناك عمليات من
استعارة إشكاليات الآخر الظاهرة، وإلصاقها بالذات. بحيث إنه في كل منعطف
كان يمكن أن يولد فيه النقدُ من مسبباته الخاصة العائدة إلي معاناة النخب،
واستشعار الظروف المحيطة بخواصها وعلاماتها الفارقة، لكن تتجدد سلطة
الالتباس مع أشباهها الناتئة لدي النموذج الغربي المسيطر. فلا تنمو ثمة
وظيفةٌ حقيقية للنقد. لا يتعرف إلي أدواته، ولا يثير نقاشات واعية حول
مناهجه، في الوقت الذي يفشل في اكتشاف موضوعاته كما هي. وبالتالي عندما
تضيع لحظة النقد الذاتي من زمن النهضة، يغدو من العسير أن تتقوّم العناصر
التاريخية المؤدية إلي انبناء أقنوم واضح ومستقل لمفهوم الحداثة. وعندئذ
يخبط التغيير خبط عشواء عاجزاً عن تشكيل أية مراكمة لإنجازات متكاملة في
بنية المجتمع. ويغدو الحراك العام مجرد انتقالات بين بدائل لفظوية خالصة،
تقذف بها التحولات السياسية وما يرافقها من شعارات مؤدلجة، تهبّ من العالم
الآخر، حيثما كل متغيراته إنما تسير وفق تكامل عضوي بين وقائعه العامة
وأفكاره القائدة والموجهة. في حين يبقي الوعي الثقافي العربي عقيماً من كل
تأثير في الذهنية المتوارثة للجماهير الواسعة والراكدة ركودها اللازمني تحت
مويجات العواصف الأيديولوجية التي تتدافع علي سطحها، ويمسح بعضُها الجديد
اللامع بعضَها الآخر القديم العابر أصلاً.
لا يصحُّ الحديث عن صدمة
حقيقية للحداثة في الوقت الذي عجزت ثقافة النهضة، وفي أعلي مستويات نضجها
خاصة خلال حقبة الاستقلالات الوطنية، عن فرض الاستشعار بضرورة طرح لإشكالية
العقل، متخطيةً حالات الغرق الدائمة في تداول المذهبيات السياسوية، ومتوجهة
رأساً إلي تعرية العقل نفسه. والحفر حتي عمق نظام أنظمته المعرفية. فلقد
اكتفت ثقافة النهضة باستخدام العقل كأدوات تعليل وتسويغ لما ينبغي عليه أن
يتبني من الأفكار والمذاهب والأيديولوجيات. وما لا ينبغي له الأخذ به من
تلك الأنساق الفكروية المعروضة والواردة غالباً كأطياف صاعدة أو هابطة علي
هوامش الحركات والتيارات السياسية. لم تدق بعد ساعة النقد الجذرية المستقلة
في الزمن النهضوي المتعثر. لقد بقي نظام الأنظمة المعرفية مسيطراً كلياً
علي عمليات الفهم: التبنّي أو الرفض للأفكار والمذاهب. كأن ثمة كأساً تمتلئ
بسوائل ذات ألوان مختلفة متغيرة. لكن تظل الكأس هي عينها ناجية من أي تغيير
تستعيره من محتوياتها. فالحداثة ليست في الأفكار بقدر ما هي في الآلة
الصانعة للأفكار. ومثل هذه البداهة لم تتوصل إلي كشفها أية طفْرة
أيديولوجية أو سياسوية ادّعت تجديداً للبني الثقافوية المتوارثة.
تحت
وطأة مضاهاة الذات المستضعفة بالآخر المستقوي بتفوقه والمداهم، لم يكن ثمة
فسحة معرفية تتيح للعقل أن يغدو موضوعاً مركزياً لاستفهامه لذاته أولاً.
وبالتالي مثلما تجاهلت النهضة طرح إشكالية العقل العربي كاستفهام لذاته
أولاً، كذلك لم تأتها لحظةُ وعي، تدفعها إلي استطلاع العقل الغربي نفسه،
وطريقة تعامله مع إمكاناته. فاقتصرت أفعال النقد علي إنتاج حلقات متوالية
من ثقافة المضاهاة التي منعت في المحصلة تحققَ تلك القفزة النادرة من توالي
تمسرحات المشاكلة وحدها إلي الفعل المثاقف الذي من شأنه أن يكسر من حدية
التقابل بين قطبي الثنائية (الشرق / الغرب). لم تكن تلك الثنائية قادرة علي
إنتاج أية جدلية معرفية بين قطبيها. فالمشاكلة تحبس التقابل في مرتبة
التضاد العقيم، الذي بدوره يؤدي إلي الموقفين التقليديين: إما التسليم
بطغيان الآخر والتماهي معه إلي درجة الانمحاء، وإما رفضه ومضاعفة التماهي
مع الذات في موروثها المعهود خارج كل لحظة تاريخية راهنة. ما يجعل العقل
عاجزاً عن إعادة تأسيس ذاته اختلافياً في آن واحد، عن كل من الموروث
المكرور أو المجلوب المستعار.
هذا العجز لا يصدر فقط عن ممانعة الظروف
واشتداد قهرها الشامل والمتنوع للفرد المختلف، ومبادراته المستقلة، بل آتية
كذلك، وفي أهم أسبابها، من فشل العقل نفسه في الإقرار بعقم أوّاليته ذاتها،
المحتكرة لفعاليته النقدية، والمتمثلة في التشرد الصدفوي، والتنقل بين
الأنظمة المعرفية كبدائل عن بعضها دون الفوز بتلك القفزة النوعية
والاستثنائية خارج مسلسل البدائل، واكتشاف قانونها الأساسي والكلي: وهو
نظام أنظمتها المعرفية، وذلك بالتصدي له وتفكيك ألغازه المستورة والمتوارية
دائماً وراء تلك النقلات العبثية.
إنه العصرُ التنويري الذي لم تلده
أبداً أزمان التغيير الفكروي السياسوي، ولا تمكنت مرةً من صناعة البوصلة
المشيرة إلي ملامحه المستحيلة. وما يمكن تسجيله في المحصّلة البائسة
للمشروع النهضوي ككل، التي تتنوع تسمياته دون أن تتحرر من خطاباته
الأحادية، هو أن الخطر الحقيقي المداهم الذي ينبغي وصفه بالخطر الحضاري، هو
أنه بات يُحدق بإرادة التغيير نفسها ولا ينجم عن استعصاء موانعها الخارجية
فحسب، فلم يبدّد أو يفقد المشروعُ النهضوي عصَره التنويري وحده فقط، بل
يكاد يفقد الشعور بهذا الفقدان نفسه.