محمد جابر الأنصاري
مجلة العربي
1 أكتوبر 2003
إذا كان من المسلّم به أن الجغرافيا القومية قد باتت الساحة الأهم لعملية التنمية, فإن المؤكد أيضا أن الكيانات الكبيرة الموحدة هي وحدها القادرة على استيعاب التحديث والحضارة.
لم تحقق مشروعات التنمية العربية في القطاعات الحكومية والأهلية في البلاد العربية الحد الأدنى الذي كان منتظراً منها.
كما أن تقارير التنمية ودراساتها في ضوء ذلك تدخل عبر أنفاق ودهاليز نظرية وتطبيقية تثير جدلاً لا يوصل إلى نتيجة.
وحتى نترفق بالتنمية وبأنفسنا, يُفضل أن نلتفت بعض الشيء إلى قضية أخرى, أعتقد أن لها الأولوية والأسبقية في التمهيد لنجاح مشروعات التنمية. وهي قضية ذات بعد (تاريخي), ومن تلك القضايا المترسبة في واقعنا لكن فكرنا العربي يهرب منها إلى الأمام... ويُسجل لتقرير (التنمية الإنسانية) العربية الأول (الصادر عام 2002) إنه قد جدد الاهتمام بخصوصيات التنمية في سياقها العربي, بما فتح باب الحوار عبر مداخله لمقاربة هذه القضية الأعمق في معالم الواقع العربي كله وفي جذوره تعقيداته المتشابكة, وهي قضية معرفية كبرى لا بد للعقل العربي أن يواجهها في عالم سريع التغير وحافل بمختلف أنواع التقلبات الفجائية.
وبعد أن انصرف العقل العربي لنقد ذاته ذهنياً ونظرياً في العقود الأخيرة فيما مثل القضية الأكثر إشغالاً للمشهد الثقافي - لكنه انشغال بالنصوص مفصولة عن سياقها المجتمعي في التاريخ - فإن المهمة الملحة اليوم أمام العقل العربي أن ينتقل من نقد ذاته إلى نقد واقعه وتشخيص هذا الواقع الشامل في جذوره التاريخية وامتداده المكاني المتداخل, والانتقال من توصيف الأعراض إلى تشخيص المسببات الكامنة وراءها, ذلك أن أغلب الخطاب العربي السائد يدور حول الشكوى من تلك الأعراض وقليل منه ينفذ إلى أسبابها والوسائل العملية لعلاجها.
ومنذ مطلع النهضة والتيار الثقافي الغالب منصرف إلى الرومانسيات التاريخية والأندلسيات المحلقة في أجواء الأمجاد الغابرة ولم تنشأ مدرسة فكر اجتماعي ينظر في مواطئ أقدامنا في العمق المجتمعي.
شرط الإصلاح
ففي منطقة تنشغل كل عقد بحرب أو اضطراب عام, تنصرف الأذهان عن ضرورة مواجهة الواقع القائم في كل مجتمع وإصلاحه إلى متابعة المشهد العام.. هذا الابتعاد المتكرر عن الواقع اللصيق بنا إلى مشهد أبعد, لا يستفيد منه إلا من يريدون إبقاء الوضع الفاسد على حاله في كل مجتمع عربي, وما لم نتيقن أن إصلاح أوضاعنا الداخلية شرط لأي مواجهة أكبر, فسنبقى في هذه الحلقة المفرغة, مرحلة بعد أخرى.
من وجهة فكرية عامة, وبما يتعدى جدل الأخصائيين ومصطلحاتهم الدقيقة, فإني أميل إلى مصطلح (التنمية الشاملة) في الحالة العربية على ما عداه, وأعني به بُعدي التنمية الإنسانية البشرية والتنمية المادية الاقتصادية العمرانية, فالكيف والكم لا ينفصلان في التطور التاريخي, وعندما يصل الكم المادي إلى درجة من النمو والتشبع يتحول كيفا ونوعا, وعليه فالجانبان في التحليل النهائي متداخلان ومتكاملان, وأي مقاربة معرفية لمسألة التنمية بعقل علمي محايد ونهج متكامل لا بد أن نأخذهما معاً في الاعتبار.
ومن هذا المنطلق أود تكثيف النقاط التالية بشأن الجذور والمشكلات المعيقة ذات الأبعاد المجتمعية والتاريخية لمسار التنمية في سياقها العربي, وذلك بإيجاز شديد مستنداً إلى ما عرضته بتفصيل أكثر في مؤلفات ثلاثة تناولت نقد الواقع بدراسة العوامل التاريخية التي مازالت مؤثرة في صياغة السوسيولوجيا السياسية العربية في عصرنا, سنخطئ إذا اعتبرناها تاريخاً منقضياً, فهي تاريخ حي شديد التأثير ومن لا يستفد من تاريخه يضطر إلى تكرار أخطائه جيلاً بعد آخر).
بعيداً عن الصراع
وما أعرضه هنا لا يخرج بطبيعة الحال عن باب الاجتهادات الفكرية التي نود التعاون بالحوار على تصحيحها وإنضاجها بعيداً عن نهج بعض الفضائيات العربية التي تحول حوار الفكر إلى صراع ديكة...!!
أولاً: عندما ظهر وانتشرمصطلح التنمية في الخطاب العربي بمطلع الستينيات من القرن العشرين أحسست أنه يتزاحم مع مصطلحين تزاحما بدورهما من قبل وهمامصطلح النهضة ومصطلح الثورة. إن مصطلح التنمية مصطلح علمي واقتصادي وبشري محايد, لكنه في السياق العربي في حينه بدا بديلاً عن النهج الثوري السائد الذي حاول بدوره تنمية متسارعة بأسلوبه للتعويض عما اعتبره تباطؤا في التنمية من جانب الأنظمة التقليدية وشبه الليبرالية التي خرج عليها. إن هذا الملحظ يثير مناقشات قد لا تنتهي في التاريخ السياسي العربي المعاصر - بشأن استبدال مصطلح ثورة بتنمية - لكني أكتفي هنا بالإشارة إلى أن الازدواج والتداخل المرحلي بين مفاهيم النهضة والثورة والتنمية في الخطاب العربي جدير بالملاحظة ومحاولة التفسير.
ثانيا: كمحاولة تفسير أرى أنه من المفيد الملاحظة أن التنمية في المجتمعات الحديثة المتقدمة منها والنامية - والتنمية أصلا مفهوم حداثة - لا يمكن أن تتواصل وتثمر إلا بعد أن تكمل هذه المجتمعات الحد الأدنى من شروط التحول التاريخي من المجتمع التقليدي بتكويناته ونظمه وعصبياته القبلية والفئوية والطائفية والمحلية إلى المجتمع الحديث الذي تديره دولة حديثة على معطيات مجتمع مدني قابل للتطور والانتقال إلى نظام ديمقراطي. إن التحول التاريخي هذا لا يتم على قاعدة الحلول العاجلة أو (الثورية والانقلابية), كما يجب ألا يفهم منه أنه تخلص تام من رواسب المجتمع التقليدي ومعطياته الموروثة في الاجتماع والسياسة والاقتصاد والفكر بشكل عاجل ونهائي, لكنه تحول تاريخي يحمل بداية طابع الحسم لتجاوز تلك الرواسب تدريجياً وبرؤية واضحة, من أجل وضع أسس المجتمع الحديث.
وفي أقرب الحالات التاريخية إلى الحالة العربية, نجد بنظرة مقارنة, أن الأمم الشرقية الآسيوية الكبرى الثلاث: اليابان والصين والهند قد قامت أولاً سواء فيما عرف بالنهضة أو بالثورة بعملية التحول التاريخي, في ظل شيء من الديمقراطية أو بدونها, وبمواجهة القوى الغربية أو بمهادنتها - كل حسب ظروفه - فلما حققت أسس ذلك التحول التاريخي وشروطه من وضعيتها التقليدية إلى بدايات الصيغة التحديثية التي اختارتها لنفسها - ولم تكن صيغة واحدة في الحالات الثلاث - فإنها شرعت بعد ذلك في برامج التنمية الخمسية وغيرها. هكذا جاءت التنمية تنمية لانطلاقة التطور الحديث بعد المرور بعملية التحول التاريخي الذي وإن اتخذ صيغاً مختلفة, فإنه في الحالات الآسيوية الثلاث, وفي الحالة الفيتنامية بعدها, ارتبط بتحقيق الوحدة القومية في جميع تلك الحالات. هكذا أصبحت الجغرافيا القومية للأمة سمة موحدة لعملية التنمية, مما ساعد على نجاحها فلا تستطيع إلا كيانات كبيرة استيعاب التحديث والحضارة الحديثة, بينما بقيت مشروعات التنمية العربية متفاوتة بين ما يزيد على عشرين ساحة مجتمعية بعدد دول الجامعة العربية, وكما ينبهنا تقرير التنمية الإنسانية فإن التفاوت الصارخ في مقياس تلك التنمية يتأرجح بين الكويت القريبة من مستوى كندا, وجيبوتي المقاربة لمستوى سيراليون,الأدنى قيمة في العالم. إن التركيز على تنمية المجتمعات العربية (الوطنية) في إطار رؤية للتكامل العربي الأوسع, مطلب تاريخي لا مفر منه, وإلا بقينا في هذا التأرجح بين كندا وسيراليون!
دخول العصر
وحان الوقت لنقرر على أن (الوطن) المتحدد الذي نعيش فيه مع أجيالنا ليس نقيضاً للعروبة والإسلام, لكن تنميته تقوية لهما في المدى الطويل, كما أنها, أي التنمية الوطنية, طريقنا الوحيد لدخول العصر بمتطلباته المختلفة.
ثالثاً: هكذا لا يمكن القول إن هذا التحول التاريخي قد تحقق عربياً لا على المستوى القومي ولا الإقليمي ولا القطري, لتبدأ عملية التنمية على أساسه. مازال العرب يعيشون في ظل تشابك الأزمنة من قديمة ووسيطة وحديثة في المجتمع الواحد, والمرحلة الواحدة (يراجع كتاب المؤلف: الناصرية بمنظور نقدي). في هذا الخليط التاريخي تصبح التنمية في بعض جوانبها تنمية للتخلف... التخلف الذي ينبغي وعيه والإقرار به وتشخيصه والعمل على تجاوزه.
فمعطيات هذا التخلف التاريخي الموروث هي التي تمكّن الأطماع الخارجية والمخططات الإسرائيلية من تحقيق أغراضها. وهي أطماع ومخططات لن تتوقف مادامت البُنى العربية غير قادرة على مقاومتها. وهذا يعني أن نتحرر من دائرة الجدل العقيم بين تأثير العوامل الخارجية أو الداخلية, وأيهما سبب التراجع, فالعلاقة بينهما عضوية وكلما ضعفت المناعة والحصانة الذاتية وبقيت على حالها تغلبت العوامل الخارجية التي لن نوقفها بمجرد إدانتها أخلاقياً أو فضح تآمرها مع إنكار ما لدينا من نقاط ضعف في الهياكل الرسمية والأهلية على حد سواء.
ثم إرث مجتمعي ضاغط ورثناه في البنى الذهنية والبنى الاجتماعية وتشخيصه لا يمس أمجاد الأمة التي دخلت سجلات التاريخ لكنها ليست معطيات قوة ملموسة في الحسابات المعاصرة.
وإنكار طبيعة هذا الإرث يمثل تهرباً من أخطر مشكلة تواجهنا كما توفر الثغرات التي يبحث عنها الأعداء لاختراق جسم الأمة المنهك.
رابعاً وأخيراً: هل نحن إذن أمام إشكالية تنمية, أم إشكالية تحول تاريخي من المجتمع التقليدي إلى المجتمع الحديث لم ينجز في الواقع العربي... تحول تقوم على أساسه التنمية الصحيحة بعد ذلك. إن التذبذب في اشتباك الأزمنة, وتأجيل فواتير التاريخ المستحقة في الإصلاح الديني واستيعاب التفكير العلمي والشروع في الديمقراطية وعلاج أوضاعنا الداخلية الفاسدة, من أخطر ما يتهدد المجتمعات العربية اليوم.
الهيمنة الأبوية
إن الإرث السائد للتنظيم المجتمعي هو ما ينبغي تشخيصه وعلاجه. وهذا التنظيم التقليدي هو الذي يفرز مختلف أنساق الحكم التقليدية والراديكالية ومختلف أنساق (المعارضة) على السواء فـ (الرابطة القرابية) أصبحت واضحة في أكثرها ثورية و(تقدمية). وإشارة تقرير التنمية الإنسانية إلى (الهيمنة الأبوية) في المجتمعات العربية من منطلق مقولة هشام شرابي في النزعة البطركية, إشارة صحيحة لكنها تبسيط واختصار لواقع أعقد وأعم هو النسيج القبلي الموروث تحت جلد المجتمع المدني والدولة القائمة. إنها أكثر من مجرد هيمنة أبوية. إن الهويات القبلية والطائفية تمثل غطاء يحتاج إليه الناس في بعض الحالات القلقة ولكن علينا أن نقرر في سلم الأولويات هل نحن في دولة حديثة تستحق ولاءنا... أم نعود إلى الوراء بالولاءات القديمة?
وعليه, فإن مشروعات الإصلاح الشامل التي لا بد للمجتمعات العربية منها في هذه اللحظة التاريخية, يجب أن تضع في اعتبارها الدفع باتجاه التحول التاريخي من المجتمع التقليدي إلى المجتمع الحديث, قبل أن تحرث البحر بحثاً عن تنمية تحتاج إلى أرض صلبة من التحديث.. أولاً.. وقبل كل شيء!