Arabic symbol

 

 

 

 

 

 

 

أهلا بكم من نحن فلاسفة أبحاث فلسفية الخطاب الفلسفي أخبار الفلسفة خدمات الفلسفة
فلاسفة العرب
 
بحث مخصص

 

 

 

 

 

 

 

 

 

قراءة في إشكالية النهضة في الخطاب المعاصر

 

 

 

 

 

عمر أبو رصاع

جريدة القدس العربي

2 أغسطس 2004

 تقتضي الضرورة المنهجية كما أري أن يكون سؤالنا الاستهلالي عن ماهية النهضة، أي ما هي النهضة؟
النهضة إذا ما أردنا استخدام التعبير الماركسي وفق قانون الجدل الديالكتيك يمكن أن تعرف بأنها ذلك التغير النوعي في التشكيلة الاجتماعية الاقتصادية الناجم عن بلوغ التراكمات الكمية الناتجة عن التناقض الداخلي لأسلوب الإنتاج للمعيار الذي يؤدي بلوغه إلي نقلنا كليا إلي تشكيلة اجتماعية اقتصادية جديدة، لنعيد ترتيب ذلك بلغة ابسط فنقول: النهضة هي نقلة نوعية تحوي تغيرا جذريا في الواقع الاقتصادي الاجتماعي بحيث تتغير أساليب الإنتاج الاقتصادي بما تتضمنه من طرائق ومواد وتقنيات وعلاقات إنتاج وأشــــكال ملكية...الخ وهذا ما يسمي بالتغير في البناء التحتي، وكــــذلك بالضرورة تغير عالم الأفكار والقيم والعادات والقوانين والأنظمة السيــــاسية..الخ وهذا ما نسميه التغير في البناء الفوقي، ماركسيا المحرك الحقيقي هو البناء التحتي بتناقضه الكامن وتفاعلاته جدله أو صراعه ؛ بدقة اكبر تطوره الناجم عن تفاعل تناقضه الداخلي دون إغفال التفاعل التبادلي مع البناء الفوقي وأهميته، لكن الأساس والمحرك أو دينامو التطور هو أسلوب الإنتاج، أما هيغل ـ هيغل كما نعلم هو مؤسس جدل ديالكتيك الأفكار وهو السباق في توظيف الفهم الجدلي للتطورـ فيري عكس ما يراه ماركس أي أن دينامو التطور عنده هو البناء الفوقي أي أن التطور يأتي نتيجة التفاعل التناقضي بين الفكرة ونقيضها أما العالم المادي أو البناء التحتي فتطوره يأتي كنتيجة لهذا التطور في البناء الفوقي، عموما إن أي فهم للنهضة لن يخرج في جوهره عن تطوير البناءين الفوقــــي والتحتي اللذين ذكرناهما فمن أي منطلق تحليلي انطلقـــــنا لا اعـــتقد أن خلافا جذريا حول ماهية النهضة قد يثور أمامنا سواء كانت نظرتنا التحليلية هيغلـــــية أو ماركـــسية، ولكن ما يثور في الذهن ونحن نطالع واقعنا العربي هو أين يمكن أن نصنف من يطلق عليهم في الخطاب المعاصر الإسلاميين، هل ينطبــــق عليهم كونهم مثاليون وفق التصنيف الماركسي ما ينطبق علي الهيغليين؟ 
إذا ما أخضعنا سؤالنا السابق لمفهومنا للرؤية الجدلية قلنا أنه لا يمكننا أن نصنف هؤلاء ضمن أهل المدارس الجدلية لسبب واضح تماما هو أن الجدليين سواء كانوا من مدرسة الجدل المثالي الهيغلي أو مدرسة الجدل المادي الماركسي يربطون بين البناءين الفوقي والتحتي، أي أنهم ينظرون إلي التاريخ نظرة تطورية جدلية بصرف النظر عن محرك التاريخ، علّني اجعلها أوضح إذا ما قلت أن أهل الجدل الديالكتيك يرون أن تاريخ الإنسان هو تاريخ تطور ناجم عن التفاعل بين النقائض التي هي نسيج الأشياء وكل مرحلة من تطوره ترتبط بما بعدها. وما قبلها وهي أكثر تطورا مما قبلها وأقل تطورا مما بعدها هذا الترابط العضوي بين البناءين الفوقي والتحتي من جهة والنظر إلي تاريخ الإنسان علي أنه حركة تطور تتجه دائما نحو الأمام من جهة أخري ليس من مسلمات الخطاب الديني الإسلامي الذي نقابله اليوم، فتطور البناء التحتي المادي ليس عندهم دليلا علي تطور البناء الفوقي وبالتالي لا تلازم بين البناءين، والقرن العشرون عندهم لا يمكن بحال وصفه بأنه أفضل من القرن السابع وبالتالي تاريخ الإنسان ليس حركة تطور تتجه دائما نحو الأمام بل علي العكس أنه من مسلماتهم ولا خلاف بينهم علي أن البناء الفوقي لمجتمع الصحابة بقيمه وعاداته ونظمه بالضرورة اكثر رقيا من أي بناء فوقي آخر بل يجعلون هذه المسلمة من مستلزمات صحة الإيمان، بل أنه أي ذلك البناء الفوقي لمجتمع الصحابة القمة التي يمثل بلوغها أسمي الأهداف والدليل الدامغ علي ذلك إنها المثال الذي يقاس عندهم عليه ولا يأتيه الباطل من بين يديه ولا خلفه! فما من رأي يحاك إلا بالقياس علي ذلك المجتمع ورجحان الرأي وصوابه إنما يكون عندهم بإسناده بحديث أو موقف بدءاً بالنبي ومن ثم صحابته..هلم جرا، وكلما ابتعدت زمانيا عن مركز التاريخ وقمته تلك في إسنادك لأرائك كلما ضعفت حجتك وتهافت خطابك وسقط في يدك، بغض النظر أصلاً عن القيمة التي يحملها الرأي.
هذا حقيقة ما دفعنا لأن نبدأ بالتساؤل عن ماهية النهضة، قد يبدو السؤال للوهلة الأولي ساذجا أو تعريفيا إجرائياً بسيطاً، لكن المسألة أعمق من ذلك فالنهضة كما يراها الخطاب الإسلامي المعاصر في جوهرها رجوع إلي الدين مع ضرورة التنبيه هنا علي أن الدين عندهم هو ذلك الفهم للنص الديني الذي بناه وصاغه فقهاء بعينهم من مدرسة بعينها وفي زمان بعينه ومقتضي التنبيه هنا ألا يلتبس الأمر علي القارئ فيخلط بين رفضنا لرؤية ما أصطلح علي تسميته بالخطاب الإسلامي المعاصر وبين الإسلام نفسه وهو الالتباس الذي نواجه به من قبل هذا الخطاب الذي يسوي بين الدين وبينه ويطرح نفسه علي أساس يقينية رؤيته للدين وبذلك يعتبر رفضك لرؤيته للدين رفضا للدين ذاته شاهرا سلاح التكفير في وجه كل من خالفه، هذا الخلط الذي يمكن ملاحظته بسهولة من خلال أسلوبه في وصف نفسه، الأسلوب الذي يكشف عن هذا الخلط المتعمد فهو الشيخ والإمام والسني والأخ المسلم وهو الذي يدعم موقفه بالنصوص الدينية كيفما تكلم وفي أي شيء تحدث وهو الذي يحاول أن يقدم نفسه علي أنه الإسلام باتخاذه شكلاً وزياً وطابعاً تحدثنا المرويات أنه كان للنبي وصحابته، وهو الذي يدعو لمن خالفه بالهداية موحياً أن المتحدث طبعاً ضال عن طريق الحق وجادة الصواب، وهو الذي متي اتسع لديه الحفظ من قرآن وسنة اتصف بالعالم مع أننا لا نعرف أين هو العلم الذي أضافه أو قدمه، وهو المنافح الصنديد عن الدين رغم إهداره لكل ما هو إيجابي في الدين الذي يتوهم أنه يحامي عنه، وهو الذي يخترق بقراءته للتاريخ التاريخ نفسه مستحضراً ومرسلاً أحداثه كيفما ساقه الهوي كأن لا حركة له فهو ماثل قائم في الذهن يعيش في زمن واحد ومكان واحد مهما اختلف المكان أو الزمان، يقرأ التاريخ قراءة عاطفية مشاعرية وكأنه قصص وسير تملأ النفس بالعجب فهي فوق منطق التاريخ تروم اسطرته وتأليهه ظالمة إنسان التجربة مهدرة إنسانيته مخرجة إياه من بيئته بمكانها وزمانها وبكل معطياتها حائلة دون الوصول إلي قراءة واعية متأنية لهذا التاريخ قراءة تكشف عبقرية المكان والزمان والإنسان في هذه التجربة متيحة الفهم الموضوعي لإنسان ممكن وليس أسطورة لا محل لها إلا ذهنه، ومن هذا الفهم التأليهي لكل ما هو متصل بالتجربة تصبح النهضة كما يراها أصحاب الخطاب الديني المعاصر هي الرجوع إلي الأصول أما الجانب المادي للحياة فيرون أنه من الممكن لأي أمة امتلكت الاشتراطات العلمية أن تتقدم مادياً وهذا عندهم لا يقتضي نهضة حضارية علي مستوي المفاهيم والقيم والأفكار والقوانين إلي غير ذلك من تراكيب البناء الفوقي المولود مكتملا عند مجتمع الصحابة سقفا لا يمكن اختراقه ضداً علي كل التطور القيمي الذي أنجزه وينجزه الإنسان، هذا الصراع المفتوح منذ وقت مبكر، والذي عبر عنه شاعرنا العربي: 
إني وإن كنت الأخير زمانه
لآت بما لم تأت به الأوائل
لن نسمح بمعركة وهمية مع التراث نصاً أو تجربة فلن نحاول الخوض في النصوص ولعب دور الفقهاء الشيء الذي يدخلنا في لعبة جدلية بيزنطية تقود إلي الشيء ونقيضه علي حد سواء، أنظر مثلاً رأي الفيلسوف الأندلسي ابن رشد الحفيد حول الخلاف في التفسير .. أجمع المسلمون علي أنه ليس يجب أن تحمل ألفاظ الشرع كلها علي ظاهرها ولا أن تخرج كلها عن ظاهرها بالتأويل، واختلفوا في المؤول منها من غير المؤول بل أنه يذهب إلي القول ونحن نقطع قطعا أن كل ما أدي إليه البرهان وخالفه ظاهر الشرع، أن ذلك الظاهر يقبل التأويل علي قانون التأويل العربي (ابن رشد، سلسلة التراث الفلسفي العربي مؤلفات ابن رشد 1، فصل المقال، مركز دراسات ـ بيروت ـ ص128 )، فليس أسهل من اللعب بالألفاظ لإخضاع النصوص لمقاصدنا وأهوائنا مما يهدر علمية القراءة، إن إعادة قراءة التراث مسألة في منتهي الأهمية وهي بالإضافة إلي وجوب خضوعها للمناهج العلمية في القراءة التراثية، يجب أن تكون قراءة بحثية معرفية إبستمولوجية تستهدف إخضاع هذا التراث تماما لعملية إعادة إنتاج، وعلي أساس من التسليم بالقاعدة العلمية الثبات للنص والدوران للعقل المنتج، ذلك أن النص لا ينطق الدلالة إلا من خلال العقل المستدل، وإن كان النص من حيث هو نص ثابتاً فإن العقل المتلقي لا محال دائراً بمعني متحركاً، ولما كانت الدلالة أي دلالة النص لا تتحقق إلا من خلال الفضاء المعرفي للمتلقي، فإن ثباتها مستحيل طالما كان الفضاء المعرفي للإنسان المتلقي متطوراً متغيراً، هكذا ينعكس التغير المستمر في بيئة العقل المتلقي بالضرورة تغيرا في نتائج القراءة لذات النص والنتيجة ثبات النص وتحول الدلالة الدائم، ولا نزعم هنا أننا أصحاب نظرية جديدة في فلسفة القراءة والتأويل فنظرة موضوعية في علم نقد النص كافية للوصول إلي هذه النتيجة، ولو أننا طالعنا الفارق البين بين القراءات المختلفة للنص الديني للاحظنا بوضوح الفارق الاستنتاجي الضخم الذي لا يمكن التغاضي عنه، سواء كان ذلك ناجما عن تغير العقلانية الطبيعي والناتج عن التطور التاريخي أو ناتجا عن المنطلقات المرتبطة أيضاً بهذا الواقع المادي الموضوعي وصراعاته.
عندما وصف ماركس الدين بأنه أفيون الشعوب، بالتأكيد كان يعني استخدامه المؤسسي قراءته وتوظيفه، فالدين ابن البيئة ملتصق بها وليس معزولاً عنها وهو ظاهرة زمكانية أي زمانية مكانية، وأياً كان الموقف من مصدره فما لا خلاف عليه أنه تجربة لامست وحاكت الواقع ولا سبيل إلي قراءتها إلي من خلاله، كان هيغل يرد علي من يتهمه بنقض الأسس الدينية بأنه من خلال فلسفته يحاول إنقاذ أسس المسيحية وأخلاقها، ولسنا هنا في مجال تقييم فلسفة هيغل أو الحكم عليها لكن يهمنا هنا أن نصف هذا العمل الهيغلي بأنه قراءة تعيد إنتاج المسيحية، ودائماً هناك قراءة تعتمد علي طبيعة الدين المرنة أقصد كنظام دلالي تعيد إنتاجه في ضوء واقعها، في التاريخ العربي الإسلامي تجد مثلاً، أن قراءة المعتزلة أكثر انفتاحا بما لا يقاس من قراءة ابن تيميه ولو أمعنا النظر لعرفنا أن القراءة المعتزلية بانفتاحها كانت تستجيب لمعطيات معينة منها تطور البنية المادية والحاجة للعلوم للاستجابة لذلك وتنامي القوة والصدام الحضاري مع الآخر من مركز المنتصر أما ابن تيميه فكان يعيش عصراً انكفائياً تواجه فيه الأمة خطراً يهدد كيانها ككل ولذا من الطبيعي إن يُستند إليه ويستلهم في حالات مماثلة كما نشهد اليوم! 
إن إعادة قراءة التراث من موقف اللحظة الزمانية الحالية ضرورة، ولكن الأهم أن نعي الآن أن النهضة ليست مشروعاً لقراءة التراث وأنه حتي هذه القراءة البديلة التي نتحدث عنها لن تكون كذلك، بل هي نتائج علي ضفاف النهضة وصور لها تلازمها لأنها منطلقة بوعي أو بدون وعي من محاولة لوصل الشخصية التاريخية ببعضها ومنع تعارض الأنا فصامها أو انفصامها، هي محاولة للنهوض بالبناء الفوقي للمجتمع أو هي جزء من هذا النهوض، محاولة ترمي إلي حفظ الانسجام بين البناءين الفوقي والتحتي، أما النهضة فلا يمكن أبداً أن تنطلق من قراءة تراثية بل علي العكس إن أي قراءة تراثية مهما كانت تقدمية لن تعدو كونها محاولة للتكيف مع الواقع المادي لأن الهم الرئيس الماثل أمام القارئ التراثي هو عملية التوفيق أو معقولية النص والتراث فكيف يمكنه إذاً أن يتجاوز ذلك إلي استخدامه في تطوير الواقع، لم يحصل أبداً في التاريخ أن كانت إعادة قراءة الدين مصدرا للنهضة، بل العكس هو الصحيح كان الدين دائما يستلهم لإعاقة التطور وكان دائما يتم تكييفه لمصالح الطبقة المسيطرة هذا تماما برأيي ما عناه ماركس عندما قال الدين أفيون الشعوب، حتي في الإيديولوجيات الثورية القروسطية التي استلهمت الدين كان استلهامها الدين يعيقها حتي وهو يخدمها ذلك أنه سرعان ما يتحول قيدا وقراءة بحاجة إلي إعادة إنتاج وطالما ربطت نفسها بقراءة معينة طالما قيدت نفسها فجدل الواقع المادي أسرع تطوراً من أي عقيدة مهما بدت منفتحة وتقدمية، هكذا فإن الخطاب الديني المعاصر ليس فقط دون مستوي القراءة الموضوعية للتراث بل هو مصاب بعمي الزمن يتجاهل تماما أن العالم يتطور وينكر هذا التطور أصلاً بل هو عنده أي ما نعنيه بالتطور والتقدم تخلفاً أما المستوي المادي الذي لا يستطيع من في رأسه عينان إنكاره فهو يري أن من الممكن عبر استلهام العلوم بلوغه ناسياً أن العلم مرتبط بوثوق بالبيئة المادية للمجتمع وأن هذه الأخيرة وحدها محرك التطور والإبداع العلمي، وأن البناء الفوقي المتعالي نتيجته وليس سببه وكذلك جدله وتطوره هو انعكاس لجدل الواقع المادي وتطوره. 
ومن الخطاب الديني المعاصر إلي الخطاب المضاد خطاب الحداثة التغريبي الذي ينطبق عليه وصف ابن خلدون للأمة المهزومة في تقليدها للأمة الهازمة ذلك أن تمثلها تقليدا يبدو للوهلة الأولي حلا لأزمة التخلف، أنها وصفة سهلة مفادها بما أني متخلف عن ذلك الآخر المتفوق علي فالحل يكمن في أن أقلده واخذ عنه أسباب تقدمه وعناصره ثم أسبقه وأتفوق عليه، هل هذا الأسلوب عملي؟ هل يمكن أن أغير المجتمع ببناءيه الفوقي والتحتي نهضويا بالتقليد؟ هل هذا الطرح ممكن في الأمة العربية هل هي مستعدة لذلك؟ ثم هل هذه هي النهضة؟إن التاريخ لا يحمل أي دلالة علي أن النهضة بدأت هكذا، صحيح أن فتح الشعوب أبوابها للآخر أو للعقلانية الأخري من مقتضيات النهضة بل من شروطها، لكنه الفتح الذي يروم توظيف المنجز الحضاري ماديا كان أو فكريا لتلك الحضارة السابقة في إطار مشروعها الحضاري النهضوي أي أنه لا يمكن أن يكون بديلا عنه، ثم أن تمثلها للآخر معناه بالضرورة إهدار الأنا وهو الأمر الذي يستحيل أن توافق عليه أي أمة حية مهما بلغ ضعفها وهكذا يثور جدل الهوية والتراث الذي لا ينتهي وكله في إطار رغبة التأكيد علي الأنا ورفض التخلي عن متعلقاته وحتي لو كانت متخلفة، ولنا أن نتساءل هنا ما معني جدل الهوية وهل التأكيد عليها إلا محاولة لرفض فنائها أو علي الأقل الشعور بالخوف عليها من ذلك؟! أرباب هذه الدعوة ينتصرون بالعولمة والدولة ما بعد الأمة والثقافة العالمية، إن الانصهار بالثقافة الغربية وفق تصورهم هو بمثابة الوصفة الماركسية حتمية تاريخية ، وهذا ما يتماهي مع خطاب التنظير الليبرالي الغربي الأكثر جدة خطاب فرا نسوا فوكاياما حول نهاية التاريخ والإنسان الأخير، فجل ما يمكن أن نطمح إليه هو الانتقال من عالم ما قبل التاريخ إلي العالم الغربي عالم ما بعد التاريخ، ذلك أن نظامه الناجز هو نهاية التاريخ كما يري فوكاياما، فعند فوكاياما الهيغلي بوضوح تعادل المرحلة الليبرالية المرحلة الشيوعية في نظرية كارل ماركس، هذا التنظير المتأخر خدمة للمصالح الإمبريالية لرأس المال العالمي المتمثل بالشركات عابرة القومية التي ابتلعت الدولة وأصبحت الدولة أضيق من مقاسها، نسائله هل حقا النظام الرأسمالي الغربي نظام رأسمالي كما تصور عراب الرأسمالية آدم سميث؟ إذن أين تصنف نظرية كنز في الاقتصاد التي تم تمثلها إثر أزمة الكساد العظيم 1927-1934 التي أثبتت خطأ الفرض المركزي للرأسمالية السميثية إن جاز لنا التعبير، والتي طرحت ضرورة تدخل الدولة لإنقاذ الاقتصاد المتهاوي ثم أصبح من غير الممكــــــن أصلاً أن تلتزم أي دولة في العالم اليوم بنظرية توازن السوق التلقائي هذا التغير الهام ليس ثانوياً كما يوهمنا فوكاياما بل جذرياً، إن عالم ما بعـــــد كنز الاقتصادي لا مكان فيه إطلاقا لحرية السوق الحقيقية أو حتي النسبية والدولة الغربية اليوم تستحوذ علي قرابة نصف الدخل القومي وهي اللاعب الرئيس في الاقتصاد، اقتصاد يتـــركز فيـــه رأس المال بمعدلات فلكية وأتمت فيه الاحتكارات الضخمة بناءها الذي يمثل مجرد تخيل دخول منافســـة حرة معه نكتة سخيفة، إن ضخامة رأس المال وتعقد شروط الإنتاج جعل الدول نفسها عاجزة عن دخول المنافسة لأن كل قوتها كدول لا تكفي لتأمين متطلبات هذا الإنتاج الرأسمالي الضخم! فأي نظام حر ليبرالي هذا الذي ينافح عنه فوكاياما؟!
ثم هل أكتمل شكل النظام الغربي فعلا وأصبح ما بعد تاريخي كما يقول فوكاياما؟ 
إذن أين تصنف مليارات الخطوات التدريجية علي طريق الإصلاح الاشتراكي ومعاندته ومقاومته في نفـــــس الوقت وهي لازالت تتوالي، من قوانين العمل وحقوق العمال والضمانات الاجتماعية، نعم نجحت الإمبريالية الرأسمالية الغربية في اتخاذ التدابير التي مكنتها دائما من إجهاض الثورة بل ومواصلة التقدم، لكن ذلك كان ولو اضطراريا بإدخال إصلاحات اشتراكية من ناحية وتصدير الأزمات علي شكل استغلال وحروب للعالم المسمي ناميا من جهة أخري، إن النظام الغربي لم يكتمل نموه ويستقر بعد كما يدعي فوكاياما، وتطوره وإن كان بطيئا وغير ثوري فإنه يحدث مع الوقت تغيراً جذرياً وليس ثانويا كما يري فوكاياما، نعم انتصر الغرب ولو افترضنا فعلا تحول العالم إلي الليبرالية وسيادتها عليه فإن ذلك لا يعني أنها الشكل الأخير أو نهاية التاريخ، إن هيمنة نظام معين علي كل العالم عند لحظة أو لفترة زمانية معينة طالت أو قصرت لا يعني أنه النهاية التي لا يمكن تجاوزها كما يري فوكاياما، فالنظام الإقطاعي ونظرية الحق الإلهي في السلطة والعصور الوسطي بكل ثقلها وهيمنتها علي كل العالم لقرون طويلة تم تجاوزها، وطالما أن الواقع المادي ببنائه الاجتماعي الاقتصادي في حالة تطور فالتاريخ سيظل مفتوحا ويكتب ويتطور ونهايته الحقيقية، باعتقادي هي نهاية للجنس البشري، أو القيامة حسب المفهوم الديني إذا جاز لنا توظيف المصطلح هنا. 
آخرون في العالم العربي وعلي رأسهم الفيلسوف الدكتور محمد عابد الجابري يرون أن مشكل النهضة مشكل بنيوي أي أنه في بنية العقل العربي والأصح كما نري أن نقول العقلانية أو المعقولية العربية، ففي مشروعه الموسوعي نقد العقل العربي الذي من الواضح أنه تطلب منه جهدا عظيما يتقدم الجابري علي كل أتباع هذا التيار منظرا ومحللا لهذا الخلل البنيوي، ويخلص بنا الجابري إلي أن مشكل النهضة العربية مشكل بنيوي أي أن بنية العقل العربي بنية تحول دون تقدمه أو أن بناءه لا يمكن أن يعتمد عليه في صناعة النهضة، نتساءل هنا إلي أي عقل ينسب الجابري نفسه؟ أهو محسوب علي العقل العربي أم الغربي؟ ثم نعود بالجابري ومعه إلي المأخذ الماركسي علي جدلية هيغل هل البناء الفوقي سبب أم نتيجة؟ ولمن الحاكمية في الجدل الدافع للتطور؟ وإذا كان لإشكالية العقل المُكوِّن والعقل المُكوَّن اللالاندية ـ إذا ما قبلنا توظيفها علي هذا النحو الذي وظفها فيه الجابري ـ فعاليتها تلك فما هو الموقف من دور الواقع المادي إذا، وكيف تعمل فعاليته؟ أليست هذه قراءة من الأعلي تعتقد أن الفكر وجدله هو دافع التطور وليس العكس أي الجدل المادي جدل البناء التحتي؟ مع أهمية التفاعل المتعاكس مع البناء الفوقي المرآة كما نعتقد أو النتيجة وليس السبب، ثم هل هذا الفصل القسري بين عقل غربي علمي وآخر شرقي لا علمي فصلا صحيحا وإلي أي مدي؟ أليس التصور الجابري لهذا الانفصال في العقل العالمي دائرا في فلك المركزية الأوروبية مهدرا للتواصل الحضاري بين الشرق والغرب؟ رغم أن الجابري هاجم في كتب أخري له هذا التصور للعالم المنطلق من المركزية الأوروبية مثل كتابه مراجعة نقدية للمشروع النهضوي العربي، لكن يبدو أن تأثره المشروع بها دفع مشروعه هو لتفكيك وإعادة بناء ما يسميه بالعقل العربي. 
الجابري وعبر مشروعه النقدي كله يغفل تماما الواقع المادي والتطور التاريخي ثم يرمي العقل العربي بأنه هو من يتجاهل ذلك، إذ يعقد مقارنة بين العقلانية العربية والغربية، متناسيا أولا ترابط الحضارة الإنسانية معاً وتواصلها، والفارق الزماني، فالعقــــلانية الأوروبية ما بعد عصر النهضة ليست بحال هي العقـــــلانية الإغريقية في العصور القديمة، وإذا كانت الذاكرة الإنسانية قد حفظت التراث الإغريقي ذا الطابع العقلاني فإن هذا التراث كان استثناءً في تلك الثقافة وليس القاعدة، كما كان المعتزلة والكـــــندي وابن رشد استثناء في العقلانية التي يصفها الجابــــري بأنها إيمانية، إن العقلانية التي سادت الثقافة القروسطية بعامة كانت إيمانية، سواء عند العرب أو عند الغربيين، فالقرون الوسطي كانت هنا كما كانت هناك، أم أن أوروبا لم تكن موجودة في القرون الوسطي ولم يكن عقلها عقلانيتها إيمانياً؟!
لقد عادت أوروبا النهضة إلي ما هو عقلاني في تراثها لتستند إليه وهي تنهض وتخرج بدافع تحول بنيتها الاقتصادية الاجتماعية من عصور ظلامها، وأهملت وهي تفعل ذلك الجزء الأضخم من ذلك التراث والذي يمثل فعلا العقلانية التي كانت سائدة وليس الاستثناء، فهل يجوز لي أن أستند إلي الأستثناءات العقلانية في التراث العربي وأقول إن العقلانية العربية عقلانية علمية؟! 
إن إطلاق النهضة يحتاج إلي إطلاق الطاقات المادية الكامنة، إلي التحول للإنتاج، إن تثوير البناء المادي للمجتمع العربي هو مفتاح الحل، وهو القادر علي إنتاج متطلــــباته النهضوية، والهم المرافق لذلك ينبغي أن يكون فتح الأفاق أمام هذا التطور المادي وإزالة ما يعوقه ويــــعرقله، وما أعاق النهضة عندنا أو بدقة حسب رأيي ما أفشـــل مشاريعها وأتي بها دون المستوي يعود أساساً، لإعــــاقة النمو في البنية الاقتصادية الاجتماعية وتشويههــــا المستمر، واستهلاك قوانا في الصراع السياسي والطحن الطبقي والقضاء المتوالي علي القاعدة المادية للإنتاج وتشــــويهها والنمو المختل وسوء توزيع الــــثروة جغرافيا وسياسيا، نعم لازالت إشكالية النهضة مطروحة الاتحاد والترقي وستظل مطروحة أبد الدهر ما لم نحقق شرط النهضة الأساسي وهو التراكم الرأسمالي وتحويل مجتمعاتنا إلي الإنتاج وإيجاد كل السبل إلي ذلك وأولها التخلص من الأنظمة السياسية العفنة وإرساء نظام مرتبط أصلاً بقضية النهضة قائم علي تداول السلطة، فكيف لا يكون النظام العربي معيقاً للنهضة والأمية بين نساء مصر 60% ؟ وكيف لا يكون النظام العربي معيقاً للنهضة والسعودية تتكلف نفقات أكثر من اثني عشر ألف أمير!..الخ القائمة التي لا تنتهي.
النهضة تتطلب تحويل رأس المال النقدي العربي إلي رأس مال منتج، وفتح الأسواق البينية العربية وخلق السوق المشتركة والتكتل الاقتصادي وتدعيم قاعدة الإنتاج وتحول الاقتصاديات العربية من متنافسة إلي متكاملة، إلي ما لا نهاية من الإصلاحات الاقتصادية والاجتماعية التي نعرفها جميعاً ونعرف من يعيقها فعلاً، إن إطلاق الطاقات المادية والحرية هما شرطا النهضة وقاعدتها الكفيلة بأن تزودنا بالبوصلة التي تشير لنا إلي خط النهضة الحقيقي وتدفعنا تلقائيا باتجاهه.