جهاد فاضل
مجلة العربي الكويتية - أول إبريل 1998
في ذكرى مرور 25 عاماً على صدور مجلة (عالم الفكر), دعا المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب في الكويت إلى ندوة فكرية موسعة شارك فيها نخبة من المفكرين والباحثين العرب على مدى أيام ثلاثة. والعربي تقدم أهم ما في هذه الندوة من آراء ومناقشات.
كان من الأشياء اللافتة في الندوة وجود مفكرين وباحثين ينتمون إلى تيارات فكرية متباينة, التقت جميعها تناقش قضية جوهرية تهم الجميع هي: (حاضر الفكر العربي ومستقبله). وقد أكدت الندوة تواصل دور الكويت في الانتماء الثقافي وهو دور أصيل ودائم ويستشرف المستقبل.
من بين المفكرين والباحثين الذين شاركوا في الندوة الدكاترة والأساتذة: حيدر إبراهيم, إسماعيل الشطي, إسماعيل صبري عبدالله, جابر عصفور, السيد ياسين, منح الصلح, علي حرب, فهمي جدعان, رضوان السيد, علي الدين هلال, عبدالخالق عبدالله, محمد جابر الأنصاري , أحمد طالب الإبراهيمي, ناصيف نصار, عبدالمالك التميمي, سليمان العسكري, شوقي جلال, أحمد الديين, عبدالله الغذامي, محمود أمين العالم, إياد مدني, محمد السيد سعيد, باقر النجار, تركي الحمد, فؤاد زكريا, صلاح الدين حافظ, جورج طه طرابيشي, رمزي زكي, الحبيب الجنحاني, دلال البخاري, مصطفى نبيل.
بدأت الندوة بكلمة لوزير الإعلام رئيس المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب الشيخ سعود ناصر الصباح رحب فيها بالمشاركين, وتحدث فيها عن الدور الذي تضطلع به الكويت في الساحة الثقافية العربية: (لقد قدمت الكويت أوراق اعتمادها إلى أمتها العربية ثقافيا قبل أن تقدمها سياسيا). وأضاف: (هذا الدور الثقافي الذي تميزت به الكويت لم يأتِ مصادفة, ولا جاء لمكسب إعلامي أو سياسي. بل نتيجة لظروف موضوعية تاريخية وفكرية واجتماعية, الأمر الذي يثبت عبر مسيرة منجزات هذا الدور أن الكويت ستبقى عربية, كما ستبقى قضاياها جزءا لا يتجزأ من القضايا العربية).
وقال الدكتور سليمان العسكري الأمين العام للمجلس الوطني للثقافة: (إذا كانت هذه الندوة تأتي في إطار الاحتفال بمرور خمسة وعشرين عاما على صدور مجلة (عالم الفكر) تتويجا لعطائها الفكري والثقافي الرفيع عبر مائة عدد, واكبت خلالها أحداث العصر الفكرية والثقافية, وأسهمت بجدية متصلة في تعزيز التحقق الإبداعي للفكر العربي المعاصر, فإنها تكتسب أهمية خاصة في هذه الفترة الفاصلة التي تجد الثقافة العربية نفسها محاصرة فيها بين تحديات نهضة منشودة تلحقنا بركب العصر, وواقع مثقل بالإخفاق وإعادة إنتاج البدايات, ومن ثم تحتاج أكثر من أي وقت مضى إلى تآزر الجهد الإبداعي لعناصرها الفاعلة في مختلف عالمنا العربي من أجل تجديد خلاق لمنطلقاتها وأولوياتها وتوصيف أشمل وأكثر عينية لإشكالياتها وتطلعاتها).
ولقد شهدت الندوة أبحاثا جيدة, ونقاشات رفيعة بين تيارات ومدارس ومناهج مختلفة, فكان هناك صراع بين أجيال وأفكار وعوالم مختلفة. وقد لوحظ حضور للمرأة الكويتية المثقفة التي شاركت في النقاش. وأبحاث الندوة ومناقشاتها ستظهر إما في عدد خاص من مجلة عالم الفكر, وإما في كتاب خاص.
وقد بدأت الندوة بمحور عن السلفية حاضر فيه حيدر إبراهيم وفهمي جدعان. وقد ذكر الأول في بحثه الطويل أن السلفية والإصلاحية والأصولية والإسلام السياسي عبارة عن مترادفات. لذا درس ظواهرها وفكرها ملخصا بذلك كتابا له صادرا عن مركز دراسات الوحدة في بيروت. وبالنسبة له: السلفي هو من يعتبر (السلف الصالح) مرجعية يستهديها ويستلهمها. ولذا فقد رأى أن لتلك الحركات التي وصلت للسلطة في إيران والسودان مشكلات مع الحاضر والمستقبل. ورغم غزارة المعلومات الواردة في المحاضرة, فإن عدم تحديد المصطلح. المفهوم أوقع الباحث في خلط كبير بين الإصلاحية الإسلامية والتقليدية الإسلامية, والسلفية الإسلامية, وذلك رغم اختلاف الزمان, والاهتمامات والأولويات. ولهذا السبب أمكن للكاتب الإسلامي الكويتي إسماعيل الشطي في تعقيبه عليه أن يتهمه بالخصومة لكل الإسلام الحديث, وأن يطالبه بالتحديد والتدقيق في المفاهيم.
وتجنب فهمي جدعان, الأستاذ الجامعي الأردني المعروف, هذا المطب منذ البداية فربط بين ظهور السلفية بأحمد بن حنبل واتباع مذهبه قديما (وصولا إلى ابن تيمية وابن قيم الجوزية وابن كثير وابن رجب) ودعاة السلف الصالح أو الصورة منهم في العصر الحديث. وللدكتور فهمي جدعان كتابان دقيقان أحدهما بعنوان: (المحنة) عن السلفية القديمة, والآخر بعنوان (أسس التقدم عند مفكري الإسلام في العصر الحديث), ولذا فهو يعرف الموضوع جيدا. لكن بسبب التصاقه البالغ بالنصوص, وصل إلى شكلانية تتسم بالمبالغة في تحديد السلفية الحديثة, فذكر بين دعاة السلف الصالح جمال الدين الأفغاني ومحمد عبده وسائر الإصلاحيين الذين ذكروا السلف ولو مرة في كتاباتهم. صحيح أنه قال إن هؤلاء توصلوا إلى نتائج مختلفة عن نتائج رجالات الأصولية الحديثة, لكنه عاد ووقع في مشكلات التحديد عندما اعتبر سيد قطب سلفيا. والواقع أن هناك فريقين سميا فكرهم سلفيا هما: الإصلاحيون المغاربة, وعودتهم إلى السلف الصالح رمزية وليست استلهامية, والوهابية وهم الذين ينفردون اليوم بحمل هذا اللقب. والسلف عندهم (السنة) التي يعنون بها أقوال النبي وأفعاله. فسيد قطب أصولي (العودة للقرآن) لكنه ليس سلفيا. بل إن السلفية دخلت صفوف الإخوان المسلمين وفكرهم بعد سيد قطب مباشرة بواسطة كثيرين أبرزهم يوسف القرضاوي الذي يدين له الإسلاميون بدعوتهم إلى تطبيق الشريعة, وهي مقولة سلفية قديمة. هل للسلفية مستقبل? لقد تركت السلفية في الفكر الإسلامي المعاصر آثارا عميقة, لكن رهانها المستقبلي في نظر حيدر إبراهيم وفهمي جدعان متوقف على إصغائها لاحتياجات ومطالب العصر والعالم.
مدارس الفكر العربي
وعرض محمود أمين العالم لأبرز مدارس الفكر العربي المعاصر, تحدث عن عبدالحميد إبراهيم في كتابه (الواسطية العربية) وفيه يتفق مع زكي نجيب محمود في أن الثنائية هي جوهر الفكر العربي الإسلامي. وعن محمد جابر الأنصاري في رسالته العلمية (الفكر العربي وصراع الأضداد). وعن محمد عابد الجابري ورؤيته التوفيقية للفكر العربي. وعن عبدالله العروي الذي لا نكاد نجد معه في تراثنا الفكري القديم والحديث إلا رؤية أحادية مسيطرة هي السلفية المناقضة في جوهرها للعقل. وعن سيد قطب وفكره في شعاره الحركي المعلن (الإسلام هو الحل), وعن النظرية الماركسية التي تتبناها الحركات الشيوعية العربية وبعض الحركات القومية. وعن فكر ساطع الحصري الذي يقيم فكره القومي العربي على أساس اللغة والثقافة والتاريخ, وعن ميشيل عفلق الذي يكاد يؤسس الفكر القومي تأسيساً مثالياً إيمانياً.
كما تحدث عن مفكرين آخرين لهم قيمتهم الكبيرة وتأثيرهم الفاعل في الفكر العربي الحديث والمعاصر, بعضهم امتداد أو تفريع لبعض الاتجاهات الفكرية آنفة الذكر, وبعضهم صاحب رؤية ذات خصوصية متميزة, ذكر منهم على سبيل المثال: قسطنطين زريق الذي يمثل الاتجاه العقلاني الحداثي في الفكر القومي, وطه حسين أبرز معبر عن التنوير العقلاني الليبرالي وخاصة في المجال الثقافي, وعلال الفاسي ممثلاً للفلسفة التعادلية العقلانية الإسلامية, وعلي عبدالرازق معبرا عن العقلانية السياسية والامتداد المستنير لفكر محمد عبده في الفكر الإسلامي, وأنطون سعادة معبراً عن الفلسفة المدرحية (المادية والروحية), وعبدالرحمن بدوي معبرا عن الفلسفة الوجودية, وعزيز الحبابي, ورينيه حبشي معبرين عن الفلسفة الشخصانية رغم اختلاف توجهها, ويوسف مراد صاحب المنهج التكاملي, وعثمان أمين صاحب الفلسفة الجوانية, ويوسف كرم صاحب الفلسفة التومائية الجديدة, وحسين مروة والطيب تيزيني وصادق جلال العظم معبرين عن العقلانية المادية الجدلية, وفؤاد زكريا معبرا عن الفكر العقلاني الموضوعي, وحسن حنفي معبرا عما يسميه باليسار الإسلامي, وأخيرا حسن البنا الامتداد الفكري السلفي لرشيد رضا والداعية للفكر الإسلامي السياسي الحركي والمؤسس لحركة الإخوان المسلمين.
وخلص محمود أمين العالم إلى القول إن الفكر السائد في المجتمعات العربية عامة يكاد يغلب عليه الطابع الأيديولوجي الخالص. إنه يتسم بالهشاشة النظرية التي لا تتيح الامتلاك المعرفي لحقائق الواقع وضروراته ومستجداته واحتياجاته وحركته المستقبلية. ولهذا فهو أقرب إلى تكريس الواقع القائم وإعادة إنتاجه.
وحول الرؤية النقدية للتراث لاحظ السيد ياسين إنه ظهرت في العقود الماضية مشاريع فكرية كبرى لعدد من الباحثين العرب جعلت التراث ـ دراسته وتحليله وتقويمه ـ موضوعاً رئيسيا لها, وذكر من أصحاب هذه المشاريع الطيب تيزيني وحسين مروة وحسن حنفي ومحمد عابد الجابري وطه عبدالرحمن.
وحول الرؤية التشخيصية للحاضر دعا السيد ياسين إلى تبني التعريف الإنثروبولوجي للثقافة, وليس التعريف النخبوي الذي يقصرها على ثقافة الإبداع, (من هنا نركز على الثقافة الشعبية التي تشكل وعي الملايين العرب, وعلى القيم السائدة بينهم وأساليب الحياة الشائعة).
التحدي الثقافي
وفي تعقيبه على بحث السيد ياسين, قال الدكتور جابر عصفور إن الزمن العربي الحالي بحكم شرطه التاريخي هو زمن يجمع بين أزمنة متعددة, أو هو زمن تتقاطع فيه الأزمنة, وتتصارع, دون أن يكون أقربها إلى القرن الواحد والعشرين أكثرها تأثيرا أو حضورا أو قوة, فهو زمن يجاور ما بين أقصى مظاهر التقدم وأقسى درجات التخلف, زمن المتعارضات المتصادمة أفقيا ورأسيا من ابنية الثقافة والمجتمع والاقتصاد والدولة بكل مسمياتها العربية.
وأضاف: ولعل التحليل المتأني للشروط المتغيرة من العملية المتصلة من التحولات الداخلية لهذه الثقافة العربية, ينتج نوعاً من الأفق الذي يسمح بتأمل إمكانات المستقبل التي تنطوي عليها هذه الثقافة في شروطها التاريخية الخاصة. فالسؤال عن أي زمن نعيشه في الحاضر ليس سوى الوجه الآخر من السؤال عن الزمن الذي يمكن أن نعيشه في المستقبل.
وألقى الدكتور محمد جابر الأنصاري بحثا عن النهج التوفيقي, أو إشكالية اللاحسم في الفكر والواقع, فقال إن الظاهرة التوفيقية في الفكر والواقع العربيين والإسلاميين لا تنحصر في اتجاه فكري بعينه, وأنها أوسع وأخطر في واقع الأمر مما تتبدى في ظاهر الخريطة الفكرية. فمن تعادلية توفيق الحكيم القائمة على توازن الأضداد وتعادلها, وهو كاتب إقليمي النزعة فرعوني الهوى وغير مسيس غالبا إلا في المرحلة الأخيرة, من ناحية إلى مدرحية (مادة + روح) أنطوان سعادة مؤسسة الحزب القومي السوري في الهلال الخصيب يمكننا أن نرى مدى اتساع منشور قوس قزح التوفيقي في سماء الفكر العربي, إقليميا كان أم قوميا, إسلاميا كان أم مسيحيا.. ويمكن لأشد الراديكاليين أو الأصوليين أن يتكشفوا عن توفيقيين في التحليل النهائي لمضمون فكرهم وبنيته, في وقت يتبرأون فيه من التوفيقية بنبرة عالية. فما إن خفتت توفيقية الاتجاهات القومية المتراجعة حتى برزت فكرة الوسطية في الخطاب الديني المعاصر باعتبارها جوهر الموقف الإسلامي تجاه ثنائيات الوجود, وذلك ما يعيد التنظير التوفيقي كنهج ومنطق رغم تغاير وتضاد الخطاب الأيديولوجي بين القوميين والدينيين.
نقد العقل الوحدوي
وحمل علي حرب حملة شعواء على العقل الوحدوي العربي في بحث قدمه تحت عنوان العربي بين اسمه وحقيقته أو (نقد العقل الوحدوي). فمع إنه بدأ بحثه بالاعتراف بأنه ليس من أصحاب الفكر القومي, كما لا يعد نفسه من الاختصاصيين في هذا الشأن فإنه تصدى لتعرية الفكر القومي العربي بصورة لا تعرف الرحمة. تحدث عن الأهم الماورائي عند العروبيين في الاعتقاد بوجود قومية للعربي هي (روح مطلقة) سارية في كل فرد, أو (ذات مثالية) تتعالى على الأحداث والتجاوب والاختلافات, أو (صفة أزلية) لا يجري عليها التبدل والتغير. لذا نحن هنا إزاء هوية ناجزة ومسبقة. إنها قدر لا مرد له ينبغي على العربي أن يكون خليقا به. الفكر العربي القومي, كما رآه الباحث, فكر يشد إلى الوراء, بدل أن يتوجه إلى الحاضر والمستقبل, كما هو فكر يقفز فوق الأحداث وينفي المتغيرات. وهناك بالإضافة إلى ذلك وعي استلابي يخترق الفكر القومي على الصعيد الخلقي, كما يتجسد ذلك في الشعور بالفقر والحرمان إزاء الهدف الذي هو التئام الهوية.
وعقّب الدكتور عبدالمالك التميمي على بحث علي حرب, فاعتبر أن الباحث انتقى مقولات فلسفية صوفية مثالية للفكر القومي طرحها وانتقدها لإثبات فرضيته في تفكيك الفكرة القومية دون غيرها. فما طرح ليس بالضرورة يمثل حقيقة الفكر القومي أو خلاصة ذلك الفكر, ناهيك عن المصطلحات التي استعملها من نوع الوهم الماورائي والمنطق الاختزالي والتعلق الخرافي والمنزع الصوفي والوعي الاستلابي وللأنظمة الكلاّنية والواقع المحايث.
هروب المثقف
وقدم الدكتور تركي الحمد بحثاً عن إشكالية النخبة والجماهير في الفكر العربي المعاصر, حمل فيه على المثقف فوصفه بأنه نخبوي هروبي هارب من الحقيقة, وصي على الجماهير يقول بالانتماء إلى العامة وفي ذاته إحساس بالفوقية والتسامي. وهو إما موظف دولة, وإما مجرد حارس لأفكار أعطيت صفة الديمومة والثبات وهي ليست كذلك. أما دوره التقليدي في علاقته مع الجماهير فهو دور الوصاية وادعاء امتلاك الحقيقة المطلقة.
وقد عقب الدكتور فؤاد زكريا بقسوة على بحث تركي الحمد فقال: (الضغينة كانت أولاً ثم اختلقت الأسباب للتعبير عنها).. وبعد أن وصف الحمد بأنه (ثائر بلا قضية), قال إن الوصاية هي من طبيعة الحياة في مجتمع, والمثقف العربي يمارس دورا حقيقيا في مجتمعه. وهو يمارس هذا الدور متواضعا, مسايرا تماما لجماهيره, ومتمثلاً لإرادتهم, وليس لديه مثل هذا الاستعلاء الذي نسبه إليه الباحث. ثم أين هو هذا المثقف الذي قال عنه الحمد إنه لا يتغير مع المتغيرات
وقال جورج طرابيشي إن المثقف ليس هو الوصي, بل هو الذي تمارس عليه الوصاية من السلطة السياسية ومن قبل حواجز كثيرة منها حاجز الأمية في العالم العربي.
ووصف السيد ياسين عرض الحمد بأنه عرض لا تاريخي, (فلو تتبعنا تاريخ المثقف العربي منذ بداية عصر النهضة إلى اليوم لما وجدنا المثقف العربي على الصورة التي رسمها تركي الحمد له).
مفتاح سحري
واستأثرت أبحاث مهمة في الندوة باهتمام المشاركين فيها. من هذه الأبحاث بحث الدكتور إسماعيل صبري عبدالله حول أبرز معالم الجدة في نهاية القرن العشرين.
قال الباحث إن كلمة التكنولوجيا شاعت في حديث الخاصة والعامة وكأنها المفتاح السحري لحل كل قضايا المجتمع. وخطر هذا الإيجاز المخل أنه يفتح الباب لتسليم بلادنا للشركات الكوكبية (يقصد العالمية) لأنها وحدها تملك هذا المفتاح. ويعيب تمجيد التكنولوجيا أنه يغفل تماما حقائق المعرفة البشرية. ففي عصرنا هذا, ومنذ عدة قرون, أول المعرفة علم مدقق ومجرد ونظري, ويلي ذلك العلم التطبيقي, أي ترتيب نتائج عملية على أساس النظرية العلمية. وفي المرتبة الثالثة تكون مساعي تحويل الحقيقة العلمية إلى أسلوب إنتاج أو تقنية, وتلك هي التكنولوجيا بالمعنى الدقيق.
وبعد أن تحدث عن العلاقة الجدلية بين تزايد المعرفة العلمية والتطوير الرأسمالي, ذكر أن العلوم الطبيعية والحيوية فتحت آفاقا غير مسبوقة, وفي فترة زمنية محدودة. وأهم من كل الإضافات في هذا العلم أو ذاك حدث تطور هائل في منهج البحث العلمي. فقد كشفت الدراسات البيئية أن النبات والحيوان والإنسان لابد من دراستها على أساس أنها مجموعات من الأنساق البيئية داخل المحيط الحيوي المكون من الهواء والماء والأرض والذي وفر الظروف الفريدة حتى الآن لوجود الكائنات الحية على كوكبنا.
وعرض الباحث للجديد في التطوير التكنولوجي الذي يمثل وثبات إلى الأمام ولم يكن امتدادا لتقنيات كانت مستخدمة من قبل. وتندرج هذه التكنولوجيا الرفيق حول ثلاثة محاور أساسية:
ـ إحلال الآلة محل الإنسان في أعمال ذهنية, وهذا ما يسمى بحق الثورة الصناعية الثانية إذ كانت الثورة الأولى تحل الآلة محل مجهود الإنسان الجسدي فقط.
ـ استخدام الفضاء الخارجي في الاتصالات.
ـ التكنولوجيا الحيوية حين نجح علماء بيولوجيا الجزيئات في عزل الخلية وتحديد مكوناتها, ظهر باحثون اشتغلوا بالتعامل مع الخلية كمصنع صغير منتج لمواد أساسية للحياة. ونجحوا في فك شفرة الموروثات أو الجينات وتحديد نقل المعلومات عن طريق حامض يسمى اختصاراً DNA.
وينتهي الباحث إلى سؤال مهم يجب أن يشغلنا جميعا ألا وهو: أين نحن العرب من هذا كله
وقد عقب على البحث الدكتور رمزي زكي فتحدث عن مفهوم الكوكبية وآفاقها المستقبلية وأثنى على بحث الدكتور إسماعيل صبري عبدالله وتمنى لو أنه توسع في بعض نواحيه.
أفكار مضيئة
حفلت ندوة الفكر العربي المعاصر بكلمات مضيئة كثيرة وردت, لا في الأبحاث والدراسات فقط, بل وأيضا في المناقشات التي كانت تعقب الأبحاث والدراسات.
دعا الدكتور أحمد أبوزيد (رئيس تحرير مجلة (عالم الفكر) لمدة ستة عشر عاما لإعادة البحث في إصدار مجلة فكرية جديدة يكون اسمها (عالم الغد) وتعني بالدراسات المستقبلية.
ودعا الدكتور أحمد طالب الإبراهيمي إلى المزيد من التواصل الثقافي بين المشرق والمغرب. وخلال مناقشة أبحاث دارت حول الحركة السلفية قال إن استجابة الحركة السلفية في المغرب كانت في المستوى المطلوب, حيث ساهمت بقسط كبير في الحركة الوطنية في بلدان المغرب وفي الجزائر بالذات. ولو الحركة الإسلامية في الجزائر ما بقيت الجزائر في الحظيرة العربية.
الثقافة والديمقراطية
وقال الدكتور علي الدين هلال إنه لا يزال هناك في مصر من يسأل عما إذا كان ما حدث يوم 23 يوليو لعام 1952 في مصر يشكل ثورة أو انقلابا. لقد ولد في مصر منذ ذلك التاريخ إلى اليوم 42 مليون نسمة, ومع ذلك فالسؤال لا يزال مطروحاً.
ونتساءل عما إذا كانت الأزمة العربية الحالية هي أزمة فكر أم أزمة مجتمع, وأجاب إنها أزمة مجتمع تنعكس على مفكريه. وذكر أن الباحث الدكتور مجيد خدوري وصف مرة إحدى مراحل التاريخ العربي الحديث بعبارة (الديمقراطية في مجتمع غير مهيأ لها), وأن باحثا آخر تحدث عن مرحلة أخرى فقال: (ديمقراطية دون ديمقراطيين).
وقالت الدكتورة منى مكرم عبيد إن الديمقراطية في الوطن العربي غائبة على مستوى الفكر نفسه, وعلى مستوى الثقافة السائدة في المجتمع. والتيار الليبرالي نفسه ينادي بالأخذ بقيم الليبرالية الأوربية, ولكنه يرفض الديمقراطية. أما شعار الديمقراطية فكثيرا ما يرفع ضد الحاكم لا من أجل إصلاح الحكم.
ولاحظ الدكتور ناصيف نصار أنه ينبغي التمييز بين الفكرة الليبرالية وبين الغرب. وإذا كان تم ارتباط بين الغرب والليبرالية فلا يجوز أن يعني ذلك عدم إمكان فك هذا الارتباط بينهما. علينا أن نبني الليبرالية عربيا, أن نعيد ابتداعها.
وذكر الدكتور الحبيب الجنحاني بعبارة ابن خلدون في مقدمته: الظلم مؤذن بخراب العمران.
وقال الدكتور فؤاد زكريا إن الفكر الليبرالي وافد, ولكن إلى متى نظل نربط الفكرة بأصلها? هل نحن عاجزون عن فهم أنه بالإمكان تجذير فكرة أجنبية? إن العنصر الأساسي في الليبرالية موجود عندنا, وفي داخلنا, والليبرالية باتت اليوم مكسبا إنسانيا. ومن الظلم أن نظل نتحدث عن أنها ذات أصل أجنبي. هل نرفض الديمقراطية لأن أصلها يوناني
وقال منح الصلح إن العروبة ليست فكرة مستوردة, وإنما هي إبداع من داخل المجتمع والنخب العربية. لقد طرحت مشروعا حضاريا تضمن هوية كما تضمن تسوية تاريخية, وليس في العروبة ما يتناقض مع الإسلام.
ولاحظ الدكتور رضوان السيد أن كل منظومة فكرية هي بالضرورة منظومة توفيقية, التركيب هو الجديد ولكن الأفكار ليست جديدة.
وعاد الدكتور فؤاد زكريا ليقول تعليقا على بحث التوفيقية في الفكر العربي للأنصاري, إن الحسم في الفكر ليس مرغوبا, ولماذا لا نترك الأضداد تتعايش في فكرنا.. إن الربط بين التوفيقية واللا حسم معناه أننا لا نترك الأضداد تتعايش. نحن نهرب من التوتر فنلجأ إلى التوفيقية حسب رأي الأنصاري. لو قارنا أنفسنا بالغرب المعاصر لوجدنا أن هذا الغرب عندما انهار التوتر في حياته (بانهيار الاتحاد السوفييتي) بدأ يبحث عن توتر جديد. إن الحسم باعتباره اختزالا ليس حلاً مثالياً, واللاحسم ليس حالة مخيفة أو سيئة.
وقال محمود أمين العالم إنه يتفق مع من نقد اليسار ولكنه يختلف حول أسباب فشله. (لم ينجح اليسار في تولي السلطة ولكن له نجاحات كثيرة ينبغي علينا أن نتبينها). وأضاف أن هناك هشاشة واضحة في الفكر الماركسي العربي, وأن الفكر الماركسي نفسه لم يترجم إلى العربية تلك الترجمة المرجوة.
في محور آخر دار حول المثقف العربي ذكر السيد ياسين أن المثقف العربي ممنوع من الاتصال بجماهيره, ولا مانع بالطبع من ممارسة نقد لهذا المثقف.
وقال الدكتور جابر عصفور إننا نعيش أحيانا كثيرة لا في عصر الحداثة بل في عصر ما قبل الحداثة, وأن هناك ماركسيين يتعاملون مع الفكر الماركسي بعقلية سلفية.
وقال جورج طرابيشي المفارقة هي أننا في بداية القرن صممنا على دخول العصر في حين أننا في نهاياته صممنا على الخروج منه.
السيد ياسين وصف مجتمعاتنا بأنها مجتمعات غير منتجة للمعرفة بل مستهلكة لها. ومن أجل الإنتاج ينبغي توافر حرية إبداع وحرية تفكير, وخطة العلم والتكنولوجيا وهذه الخطة وضعتها منظمة الألكسو, ولكن القرار السياسي لم يصدر.
ودعا الدكتور إسماعيل صبري عبدالله إلى عدم الانكفاء على الماضي ومناقشته (عبدالناصر أحسن أم أساء) على حساب رحلة المستقبل.