الكلام عن الفلسفة في المرحلة العربية الراهنة،
قد يبدو مفارقة منطقية واستفزازاً لأهل الفكر
عامة، إذ كيف يمكن تسويغ هذا الكلام، والوضع
العربي يكاد يقارب حطاماً، ناهيك عن أن هنالك حتى
الآن مَنْ يشكك في ظهور "فلسفة" في التاريخ العربي
على وجه العموم، سواء كان هؤلاء من العرب أو من
المستشرقين؟ بيد أن المفارقات من النمط المذكور
غالباً ما تخفي وراءها نقيض ما تفصح عنه، كما كان
"هيجل" يرى، في حينه.
والسؤال الآن الذي يطرح نفسه بصيغةٍ مضاعفة هو
التالي: ماذا لو أقررنا بوجود فلسفة عربية وسيطة
(ونحن أميل إلى ذلك)؟ فكيف نُقرّ بإمكانية إنتاج
فكر فلسفي راهن ضمن الوضعية العربية السوسيوثقافية
المذكورة، بعد أن أخفق عصر النهضة العربية
الحديثة، وإلى الآن، في تكوين منظومة فلسفية
متسقة، عدا شذرات هنا وهناك؟
ونسعى الآن إلى تقديم مجموعة من الأفكار
الأولية، التي نرى أنها قد تُسهم في التأسيس لحالة
جديدة إيجابية في الحقل المذكور. تأتي الدعوة إلى
إنجاز ذلك في ظروف خارجية هي في غاية التعقيد
بالنسبة إلى الفلسفة والخطاب الفلسفي. فبالتساوق
مع ظهور النظام العالمي الجديد، تبرز الاتجاهات
التالية (وغيرها): 1- أفول الأيديولوجيا: هنتنغتون
وكلاوس وفِشاور. 2- نهاية التاريخ: فوكوياما. 3-
إقصاء الاتصال لصالح الانفصال: فوكو. 4-موت
المؤلف: بارت. 5- ما بعد الحداثة التفكيكية ونهاية
الفلسفة (مع الأنماط الأساسية الكلية): لينار. 6-
رفض الإقرار بالفلسفة إلا من حيث هي منظومة نظرية
"صافية" وذات طابع كوني، ذلك لأن هُويتها، كما
يقال في هذه الحال، تقوم على (إنتاج المعرفة)
بـ"آليات منطقية"، دون تلوُّث في أية دلالة أو
إشارة إلى (الخصوصي): كمٌ كبير من الباحثين
الغربيين، ومن العرب مثل عبدالرحمن بدوي وعلي
حرب.
وليس خافياً أن تلك الاتجاهات -في الغرب
تحديداً- تتأثر، في ذلك، بكثير من عوامل تصفية
الإنسان الفيلسوف، ومنها العنصران الكبيران في
التأسيس للعولمة، وهما التنميط والتّسليع في سياق
السَّعي لإيجاد سوق كونية سِلعية تتجه إلى ابتلاع
الطبيعة والناس وإعادة إخراجهم "أشياء". ومن شأن
هذا إعادة بنْية الموضوع الفلسفي برمّته، وذلك على
نحو يُقصي المحاور الفلسفية العريقة الكبرى:
الوجود، والمعرفية والقيم.
وهذا الأمر سيحمل إحدى علاماته الفارقة، وهي أن
مشروع التأسيس الفلسفي العربي- الجديد يقوم على
المغامرة التاريخية، فهو إذ يُقلع، يجد الآخر وقد
راح يبشّر بتفكك "جدوى الفلسفة"، مما يضعه أمام
استحقاق السّباحة ضد التيار، ولِمَ لا، والتاريخ
لا يتجه وجهة واحدة مُلزمة، ونظراً للضرورات التي
يطرحها "الزمن العولمي"، فإن "المشروع الفلسفي"
إياه يقف أمام سؤالين اثنين عليه أن يجيب عنهما،
بالضرورة وعلى نحو تضايُفي. أما أولهما فهو
التالي: هل بإمكان العرب مِن مُنتجي الثقافة
والفكر أن يجيبوا اليوم وليس غداً عن أهم
الاستحقاقات الفلسفية والفكرية المُعلّقة منذ
الإخفاق النهضوي المُطّرد، يداً بيد مع
الاستحقاقات المماثلة الراهنة؟ ويلاحظ أن هذا
السؤال والإجابة عنه يتحدران من مرجعية تاريخية
استراتيجية قائمة على إبيستيمولوجيا التأسيس
المعرفي لمشروع عربي جديد في النهضة
والتنوير.
ويُصرح السؤال الثاني عن نفسه عبر مقولة
"الكيف" وعلى النحو التالي: كيف يحقق المعْنيون
(العرب) معطيات الاستمرارية الوجودية؟ وإذا كان
السؤال الأول سؤالاً في الوجود والمصير مما يجعله
بمثابة الكوجيتو (المبدأ الأقصى) العربي المعاصر،
فإن السؤال الثاني هو سؤال في التقدم التاريخي
والحضاري بمقتضى شروط العصر وروائزه بصيغة تحتفظ
بخصوصيات الموقف. وفي الحالتين المذكورتين كلتيهما
تظل مقولة "الوضعية العربية الراهنة" في
احتمالاتها وآفاقها الإيجابية التاريخية "معياراً"
لذلك: كل ما نأخذه وما نلفظه وما نستلهمه من
الماضي والحاضر القوميين ومن الماضي والحاضر
العالميين، يمر عبر تلك الوضعية معرفياً
وأيديولوجياً وسوسيولوجياً ومنهجياً، مع الإشارة
إلى أن "الوضعية" المذكورة تتشخص في المشروع
الفلسفي والحضاري العربي الجديد، بقدر ما يستمد
هذا الأخير منظوماته ومفاهيمه ومقولاته من
الاحتمالات المفتوحة من موقع تلك
(الوضعية).
إن كلاماً فلسفياً حول فلسفة ذات خصوصية عربية
نسبية إنما هو -والحال كذلك- كلام في مشروع عربي
في النهضة والتنوير الحضاري. وخارج هذا المشروع قد
يكون الكلام على "فلسفة عربية" راهنة في حدود
الاستحالة المنطقية والواقعية. أما المداخل
النظرية إلى ذلك (وهي كذلك آليات) فقد تكون
التالية في مقدمتها: الحرية، والمراجعة النقدية
العقلانية، والإقرار بالتعددية حتى الفلسفية،
والحقيقة، والذاتية، والإجابة عن علاقة الفلسفة
بالأيديولوجيا وبالدين، ومدخلاً إلى النهضة
والتنوير.
|