16/11/2007
د. طيب تيزيني
قد يبدو هذا العنوان بالنسبة لمجموعات من المثقفين والمفكرين والكتّاب العرب مفارقة غير مقبولة, أو استفزازاً للفلسفة والفلاسفة, أو جهلاً ظلامياً بهذه المسألة, من حيث هي. إذ ما علاقة العرب والفكر العربي بالفلسفة, ناهيك عن يوم الفلسفة العالمي؟
ذلك تساؤل يأتي من موقع مثقفين عرب, يعيشون في الداخل أو في الخارج, وذلك بالتوازي والتوافق مع مثقفين وكُتّاب غربيين يسلكون مسلكاً استشراقياً, يقوم على إنكار احتمال التوافق بين الفكر أو "العقل العربي" وبين الفلسفة أو العقلانية عموماً. لقد كان مثيراً ومُدهشاً للكاتب الفرنسي "أندريه جيد" أن يستأذنه مثقف عربي في ترجمة أعماله إلى اللغة العربية, فسأله فيما إذا كان هذا العمل مفيداً للقارئ العربي, الذي لا يمكنه أن يفهم نصوصاً أدبية غربية بهذا المستوى.
ومعروف أن أحد مؤسّسي الاستشراق الغربي الحديث كان الفرنسي أرنست رينان, الذي كان له دور ملحوظ في التأسيس الثقافي واللغوي للموقف المذكور من الثقافة العربية, وهو القائل بلغة عرقية: "ما كان لنا أن نلتمس عند الجنس السامي دروساً فلسفية". بل إننا نعلم أن هذا الموقف برز في قرون ماضية ليس في الوسط الغربي الاستشراقي فحسب, بل كذلك -وهنا حالة ملفتة- في الوسط العربي الإسلامي الوسيط ذي التوجه الديني النّقلي, بل كذلك ذي التوجه العقلي, وإنْ بمسوِّغ يُبقي على عقلانيته. ومن هؤلاء الجاحظ نفسه, الذي يرى في كتابه (البيان والتبيين ج3) أن "كل معنى للعجم فإنما هو عن طول فكرة وعن اجتهاد وخلوة.. وكل شيء للعرب فإنما هو بديهة وارتجال وكأنه إلهام". وفي حين فسّر عديدون رأي الجاحظ هذا على نحوٍ يُخرج العرب من العقلانية, فإن مصطفى عبدالرازق في كتابه "تمهيد لتاريخ الفلسفة الإسلامية" يفسره بالقول إن الجاحظ في ذلك "يصف العرب بسرعة الذكاء وحدة الذهن وإصابة الرأي, فيما يحتاج غيرهم فيه إلى أناة وطول تفكير واستعانة وبحث". ومناسبٌ في هذا المجال أن نشير إلى أن بعض من كتبوا حول المسألة من العرب القدامى ربما التبس الأمر عليهم, حين لم يميزوا بين "العرب" و"الأعراب", وربما كان ابن خلدون من هؤلاء.
بيد أن الأمر اختلف على نحو خاص, حين وُجد من عالجه خارج دائرة الإيديولوجيا العرقية, التي تستند إلى ثنائية الشرق-الغرب, والإلهام والتفكير, والرؤية والعلم, بعد أن بحثوا في الحيثيات التاريخية السوسيوثقافية والنفسية, التي كانت الخلفية العمومية لِما يبدو أنه قائم على غرب عقلي وعلى شرق إلهامي أو ديني. فهذا يمكن النظر إليه من باب الخصوصية النسبية لكل بنية ثقافية في تاريخ الحضارات, لكنه لا يقود إلى ما وصل إليه بعض دارسي علم الإناسة "الأنثروبولوجيا" من تصنيف للشعوب إلى فئة "ما قبل منطقية" وأخرى "منطقية".
إن في تلك الملاحظات, التي قصدنا منها ضبط موقع العرب من العقلانية ومن ثم من الفلسفة, أمراً له أهمية ذات طابع أساسي وتأسيسي, ويقوم على الإجابة على السؤال التالي, هكذا بوضوح وإفصاح: هل يمثل الفكر العربي (ولا نقول: العقل العربي الذي قد يُنظر إليه بمثابة جوهر ثابت في ذاته) أداة ذهنية قادرة على الاستكشاف والإبداع في حقول المجتمعات العربية المختلفة, أم هو حالة لم تعد قابلة للتقدم راهناً, إذا افترضنا وجود ذلك سابقاً؟ ثم, هل يحتاج العرب مَن يُدخلهم في "سنّ الرشد", ويُسهم -من ثم- في إخراجهم من انحطاطهم, الذي يكاد يلازمهم من حيث هم؟ إن إجابة أولية على هذا السؤال تدخل, مباشرة, فيما نحن الآن بصدده, أي بـ"يوم الفلسفة العالمي".
ليس من شأننا الآن أن نجيب بلغة الحسم عن تلك المسألة, ولكن من شأننا الآن وغداً أن ندرك أن انخراط العرب في مشروع أو مشاريع تؤسِّس لمسوغات استمرارهم تاريخياً, إنما هو أمر أصبح على أهمية حاسمة, في عصر يضع الجميع أمام مثل السؤال التالي: هل يمكن أن نجيب على المعلَّق من معضلاتنا ومشكلاتنا اليوم, وعلى نحو يسمح بالحفاظ على كياننا وخصوصيتنا, في سياق العمومية الكونية؟ إن احتفاء أهل العقل والحصافة والاستنارة بيوم الفلسفة العالمي, إنما هو, أيضاً من شؤوننا, كما هو من شؤون الإنسانية التقدمية والطامحة إلى الكرامة والحرية والكفاية المادية.0