مع هذا العام ،2005 الآخذ في الأفول، تكون قد
مرّت مئة عام على رحيل الإمام محمد عبده (عام
1905)· وتأتي هذه الذكرى في مرحلة عربية إسلامية
تضجّ بسيل من الأحداث العظمى· وثمة أمر ذو خصوصية
بالغة يطرح نفسه في سياق هذه الذكرى، وهو الإخفاق
الذي مُني به المشروع الإصلاحي الديني، الذي طرحه
الإمام لمواجهة آفتين اثنتين كان لهما، في حينه،
حضور كثيف في العالم العربي الإسلامي عامة وفي مصر
بكيفية خاصة، وهما الجمود الديني والثقافي والفساد
السياسي·
ويلاحظ أن النشاط الإصلاحي الذي أخذ الإمام
يقوم به، كان قد أتى متقاطعاً مع جهود كبيرة في
الاتجاه نفسه أسّس لها الثائر المصلح جمال الدين
الأفغاني· لكن هذا الأخير - وقد كان أستاذ محمد
عبده وصديقه- ركز نشاطه باتجاه عمل سياسي ممتزج
بعمق بجهود فكرية إصلاحية واسعة· وكان ثمرة ذلك أن
أسس الأفغاني مدرسة في الفكر ''العربي'' الإسلامي
كانت عناوينها الكبرى قد تمثلت في ''النظر
العقلي'' و''العدالة الاجتماعية'' و''مواكبة العصر
في تقدّمه الصناعي والسياسي والعلمي
والتكنولوجي''، مِمّا جعل البعض يرى فيه إشارة إلى
الدعوة للدخول في عصر الحداثة، إنما وفق الخصوصيات
الكبرى لمجتمعات عربية إسلامية· ومن المسائل التي
ظهرت في نشاطه الثقافي السياسي دعوته إلى النظر
للأديان كلها على أنها ذات جذر واحد، وإلى تحرر
المرأة بصيغة مساواتها بالرجل، وإلى تأويل النص
الديني بمقتضى الحقائق العلمية· وفي هذا كله، كان
الأفغاني يضع استراتيجية في وجه المخاطر الغربية
المتدفقة باتجاه الشرق الإسلامي بغية الهيمنة
عليه·
ذلك ما كوّن النسيج الغالب لما تلقفه الإمام
محمد عبده من أستاذه، ومن عصره الحاشد بالاضطراب
والتحولات· وإذا أخذنا في الاعتبار التأثير الغربي
الذي امتد إلى شخصية الأفغاني تحت اسم ''الحركة
الدينية''، فإننا سنلاحظ أن محمد عبده -كذلك- مرّ
بمثل ذلك التأثير الإصلاحي الغربي عن طريق أستاذه،
إضافة إلى التأثير الذي عاشه في باريس مباشرة بعد
نفيه من مصر إلى بيروت بسبب اشتراكه في ثورة أحمد
عرابي·
كان ما استخلصه الإمام من تلك الوضعية المركّبة
والمعقدة أنه لن يكون صحيحاً أن يستمر في نشاطه
السياسي بوسائل وأدوات سياسية، وكان هذا هو الشق
الأول من التجربة المريرة، التي قادته إلى اليأس
والشك في ''رسالته''· أما الشِّق الثاني فيتمثل في
التوجه إلى حقل آخر يكون بمثابة الردّ على ذلك
الإخفاق السياسي، وهو الحقل الثقافي التربوي· ومن
ثم، فإن المهمة-الرسالة، التي يجدها منوطة به،
تغدو متجلية في الإصلاح الديني أولاً، ليصل معه
إلى الإصلاح الثقافي التربوي العمومي· وهذا ما
أنتج القول بضرورة مواجهة الجمود والخرافة في
الفكر الديني بعقل منفتح مستنير، يقوم بدور
المجتهد والمؤوِّل: المجتهد على صعيد الإنتاج
الديني الإصلاحي المعرفي، والمؤوِّل للنص الديني
بمقتضى الإلزام العقلي العلمي، مترتّباً على ذلك
الإقرار بالعلوم والفلسفة وبالمدنية·
ومع وفاة الإمام، بدا الأمر وكأن مشروعه
الإصلاحي التنويري قد دخل في نفق مغلق، ولم يكن
الأمر على هذا النحو تماماً· لكنّ ما راح يتضح في
سياق ذلك وبعده، أخذ يُفصح عن نفسه بالمقولة
التالية: إن المشروع الإصلاحي الديني و(الثقافي
التربوي) في ظروف تقوم على غياب الاستقلال
والسيادة لبلدٍ ما ''مصر''، سيكون هدفاً لعدد من
الاختراقات، التي يمكن أن تطيح به أو أن تضعضعه·
من هذه المقولة يمكن استنباط نتيجتين اثنتين، تقوم
الأولى منهما على رفض القول إن الخطاب أو العقل
العربي الحديث إنما هما حالتان تعبّران عن أن
للثقافة العربية الحديثة بنية ذهنية تلوك نفسها
بعقم (وخصوصاً في الفكر العربي المشرقي الذي يعتبر
والحال كذلك وريث عقل مشرقي بياني أو عرفاني أو
كليهما معاً)· أما النتيجة الثانية فتتلخص في أن
المشروع الثقافي (الديني) الديمقراطي في العالم
العربي الحديث لا سبيل إلى تحقيقه إن لم يكن الوجه
الأول أو الثاني من مسألة يظهر وجهها الآخر ممثلاً
في إصلاح سياسي ديمقراطي· وها هنا بالضبط، نجد ما
يقدم لنا تأكيداً تاريخياً على أن ''المشروع
العربي الديمقراطي''، الذي يلوح البعض به راهناً،
يتحول إلى خطاب وهمي زائف إن لم يقم على الوجهين
الاثنين السابقين مع أوجه أخرى وعلى نحوٍ يشدد فيه
على السياسي·
|