ثمة موقف كبير ظهر لدى مجموعة من المثقفين
السوريين واللبنانيين، حين زار جمال عبدالناصر
دمشق في بدايات الوحدة بين سوريا ومصر عام 1958.
كان استقبالاً حافلاً قد حدث للزعيم، حين احتشد
جمهور كبير أمام "قصر الضيافة" تحية له وتأييداً.
وعلى شُرفة القصر وقف هو- وعدد من المسؤولين
السوريين- يخاطب ذلك الحشد بالمناسبة الجليلة.
وكان من جملة المثقفين اللبنانيين، الذين جاءوا
لتهنئة عبدالناصر أحد هؤلاء، فقدم كلمة باسمهم، هو
رئيف خوري. خاطبه وكان يقف إلى جانبه، قائلاً:
الديمقراطية يا سيادة الرئيس، الديمقراطية هي
الضمان الأكيد لاستمرار الوحدة ولامتداداتها إلى
البلدان العربية الأخرى.
وإذا كان خوري من أوائل من نبّه إلى الضرورة
القصوى للديمقراطية في المجتمع الوحدوي الجديد،
فقد راحت أجيال من المثقفين والسياسيين والعلماء
ومِنْ معظم الفئات الشعبية في سوريا ولبنان ومصر،
يدركون أهمية ذلك، خصوصاً مع بروز "أجهزة المباحث
القمعية"، الذي لم يتأخر كثيراً عن الحدث التاريخي
الكبير، الوحدة العتيدة. وكان لقرار إلغاء المجتمع
السياسي بما فيه الأحزاب والتنظيمات السياسية،
تحريك الأمر باتجاه الاشتعال، ثم باتجاه المجتمع
بكليته، من حيث هو. وكان ذلك بمثابة تأسيس سياسي
ومعرفي وسيكولوجي لما سيتخلّق في أحشائه بصيغة
"الدولة الأمنية"، دولة الفساد والإفساد، التي ترى
في المجتمع كله خصماً لها: مًمّا يستدعي القيام
بإفساده وإرعابه وتجفيف كل منابعه، كي لا يتمخض
أبداً عن رهان، ولَوْ بشكل خيالي.
وقد شاع في حينه مثلٌ شعبي عميق الدلالة،
وانتشر في أوساط الناس، وهو: الحماقة والجشع
الملوث يجعلان من أصحابهما القاتل والقتيل كليهما.
فقد امتدت عمقاً وسطحاً حركة النقد الإيجابي للحدث
الوحدوي في معظم سوريا. وفي الآن نفسه، راح كتاب
كبار في مصر ينتبهون إلى ذلك؛ وكان في طليعة هؤلاء
طه حسين.
ونعود إلى خوري- وهو مفكر لبناني متميز-
لنتمعّن فيما كتبه حول هذه المسألة لدى طه حسين.
يقول -وهو يمارس هنا دور مؤرخ الثقافة-:"ما سمعنا
صوتاً يرتفع لنُصرة الحرية، حرية الفكر والصحافة،
في وادي النيل، إلاّ كان صوت طه حسين في المقدمة.
فكلّنا تدرّج على أدبه ومؤلفاته، التي كانت ركناً
من أركان حرية الفكر. وقد علّمنا قيماً ومعاني
نبيلة قد لا يكون الوطن من دونها وطناً. وليس أقلّ
هذه القيم والمعاني: حرية الفكر وحرية الصحافة،
والقتال ضد المضيِّقين على الأقلام". (جاء ذلك في
ندوة عن رئيف الخوري تم عقدها في مايو من سنة
1993).
يجيء حديثنا هذا ليس بمثابة تذكّر للرائد
التنويري الحر طه حسين فحسب، وإنما كذلك بمناسبة
نعتبرها مفتوحة على مصاريعها للتفكر فيما يحدث في
مناطق متعددة من الوطن العربي من حصار بغيض
للحريات الديمقراطية، وبكيفية خاصة حرّيتيْ
الإعلام والثقافة. والمفارقة المدوّية في ذلك تكمن
في أن هذا الذي يحدث، يقدمه أصحابه من حيث هو
حَفاظ على سيادة الوطن وكرامته وازدهاره، وكذلك
بمثابته سياجاً لحماية الشعوب العربية من تدفّق
الغرب باتجاهها ثقافياً وقيمياً ووطنياً وقومياً.
بل ثمة من يعلن أن ذلك السياج إنما جاؤوا به
لحماية تلك الشعوب من أنفسها (وهذا يدخل فيما يمكن
أن نطلق عليه ردْعاً احترازياً، بمعنى مساعدة تلك
الشعوب- ومن ضمنها الشباب والفاعلون في حقل
المجتمع السياسي والحقل المدني- من احتمال
انقيادها لـ"نزواتها ومطالبها الفاسدة").
الأوضاع لم تعد تحتمل ذلك، والدعوة إلى إصلاح
وطني ديمقراطي وتحديثي، غدتْ ألف باء العيش وفق
ميثاق الشرف: كفاية مادية وحرية وكرامة.
|