انطلقت حركة نشِطة في مؤسسات جامعية وأكاديمية
وثقافية، باتجاه التحضير ليوم الفلسفة العالمي،
الذي بات وشيكاً. وفي سياق ذلك، تأخذ المواقف من
هذا "اليوم" في التمايز والتأهب لمواجهة
الاستحقاقات. وإذا حاولنا ضبط المرحلة، التي يأتي
اليوم المذكور فيها، فلعلنا نسجل ملاحظتين اثنتين:
أما أولاهما فتقوم على أن توقيت هذا اليوم، يُفصح
عن نفسه في أحوال عربية موغلة في الانكسار السياسي
والعسكري، وحيث تُحتلّ بلاد ويُهيّأ لاحتلال بلاد
أخرى. ومن ثم، فإن الاحتفاء بيوم يحمل اسم
"الفلسفة" يبدو كأن في الأمر مفارقة منطقية أو
سخرية مُرّة. وتبرز الملاحظة الثانية لتضعنا أمام
مشهد، يكاد يكون دامياً ويقوم على أن الدعوة
للاحتفال بذلك اليوم يمكن أن تظهر استفزازية، حيث
نلتفت إلى واقع الحال الثقافي العربي، فهذا الأخير
تُخيّم عليه سحابة سوداء تكاد تسدّ الأفق، وتتحدد
في احتلال الفكر الظلامي معظمَ واقع الحال ذاك،
وهو فكر يتأسّس على الاستفراد بالسلطة وبالثروة
وبالإعلام وبالحقيقة، ومن ثم، فإن الاستفراد
بالقرار السياسي والاقتصادي والإعلامي والثقافي
(المعرفي) يمثل حجر الزاوية في الفكر
المذكور.
ومن الطريف أن الموافقة على "يوم الفلسفة
العالمي"، وعلى الاحتفاء به، تأتي -في حالات عربية
كثيرة- من مرجعية ذلك الفكر الظلامي، سواء تجلّى
في صيغة قومية أو وطنية أو ليبرالية أو دينية،
ممّا يشي بطابع اللعبة، التي تمارسها تلك المرجعية
بالإفصاح أو بكيفية خفيّة.
ومن شأن هذا أن يعني -وفي تلك اللعبة- أن يعمل
صاحب القرار المعنِي في هذا الحقل على توظيف
الاحتفاء بيوم الفلسفة المذكور على نحوٍ يكرّس
سلطته السياسية والأيديولوجية بمنحها شرعية في
أعين الناس. وإذ يتم ذلك، فإنه يجد نفسه مرغماً
على التكيّف مع الإلزامات، التي يفرضها صانع
القرار في الموافقة على "الاحتفال بالفلسفة". من
هذه الإلزامات: أن يكون صاحب القرار في النظام
السياسي القائم حاضراً كل الحضور حتى في المحاضرات
والمداخلات والمناقشات، التي تُقدم آنئذٍ. أما من
ناحية أخرى، فإن يوم تمجيد الفلسفة يتحول إلى يوم
تمجيد للنظام السياسي القائم، بما قدّمه من دعم
عظيم لهذا اليوم، الذي سيُنظر إليه -بعدئذٍ- على
أنه أحد المكتسبات الكبرى. ويبرز احتمال آخر
يتجلّى في غزو "يوم الفلسفة" بجيش من الهُواة، بعد
أن يكون أصحاب العلاقة من الباحثين والفلاسفة قد
حيل بينهم وبين المشاركة في اليوم
المذكور.
على ذلك النحو، يتحول الاحتفاء بيوم الفلسفة
العالمي إلى يوم إساءة لها بإظهارها ظاهرة فاسدة
مُفسدة، أو متخلفة، أو بكونها خطاباً في الجهل
والفذلكة الأيديولوجية، أو في فضائل سادة القرار
الأيديولوجي والسياسي. وفي هذا المُعطى، يلتقي
أولئك الهواة من المحاضرين في اليوم الفلسفي
العالمي مع مَنْ يناهضون الفلسفة ويكفّرون
أصحابها، بدعوى أنها تؤسس للفساد والإفساد. وإذا
كان هؤلاء يرفضون الفلسفة جملة وتفصيلاً من
خارجها، فإن أولئك يرفضونها من داخلها عبر اختراق
قضاياها ومشكلاتها اختراقاً أيديولوجياً فظاً.
ولكننا في كلتا الحالتين، نواجه بنية ذهنية ترفض
العقل والعقلانية والتنوير والمذهب التنويري
والنقد والنقدية والتاريخ والتاريخية، بالتوازي مع
رفض التعددية والندِّية والديمقراطية في الحوار
الفلسفي، كما في غيره. ومن هنا، لا يعود باعثاً
للدهشة أن يوافَق على إقامة مثل ذلك الاحتفال
"الفلسفي"، طالما أنه ينجز مهمة محددة، هي خرْبطة
الأوراق في العلاقة بين السلطة والثقافة.
إن مثل ذلك الجوّ "السوسيوثقافي" والسياسي في
كثير من البلدان العربية ومؤسساتها الجامعية
والأكاديمية، يمثل حاضنة مناسبة للظلامية في الفكر
العربي خصوصاً، وفي الحياة العربية على نحو
العموم، وبهذا، يتضح أن اختراق الفلسفة في الفكر
العربي يتمثل -على نحو مخصّص- في حصارها المباشر،
ولكن بصيغةٍ أكثر أذىً واستباحة في حصارها غير
المباشر، الذي يتضح بالكيفية التي أتينا على
ذكرها.
الاحتفاء بيوم الفلسفة العالمي لن يكتسب صدقيته
وكرامته إلا في سياق فكّ العقل والحرية والنقدية
من إسارها، ولعل هذا أن يكوّن لحظة حاسمة في تكوين
نظام ثقافي عربي جديد يستجيب لاحتياجات بلدان
عربية يُراد لها أن تستباح من الداخل والخارج.
ويظل القول صحيحاً إن الاستجابة لتلك الاحتياجات
تمرّ بالمدخل الذي يقود إلى مشروع عربي في النهضة
والتنوير، يجد طريقه وتحققه بصيغ متعددة تعدّد
البلدان العربية، ولكن تحت مظلة ما يجعل من هذه
البلدان وطناً حُراً متقدماً.
|