الثلاثاء: 05/02/2008
العولمة من العالمية
الى الطبقية
د.
هانز رونر(*) ترجمها عن الالمانية/ ماهر حوني(**) (خاص
للمعهد )
في القرن
الحادي والعشرين تولدت فرص ظهور طبقات اجتماعية أساسها عالم
المعلومات والاتصالات الجديد، لا لأن يكون المجتمع البشري أكثر
عالمية في الروح فقط، وإنما لبناء روابط مشحونة بالامتدادات
القوية ذات المعلوماتية المألوفة لدى مكان محدد بالتطور السريع
والنمو اللامحدود. ومع ما يصاحب العولمة واستمراريتها السريعة
وانتشارها وازدياد قوة التعاون الدولي من قدرة معلوماتية فإن
ظهور طبقة اجتماعية عالمية لاح في الأفق. فبدأ المواطنون ببناء
ولاءات متبادلة عابرة لحدودهم المحلية والوطنية، لهم صفة التواصل
دون الرجوع إلى الدم واللغة. قسم علماء الاجتماع هذه الطبقة
إلى قسمين؛ الأول يطلق عليه (طبقة الداخل العالمي) وهي الفرد
الذي يمحور ذاته متماشيا مع العالم ككل. والقسم الثاني يطلق عليه
(طبقة الداخل المحلي) وهي الفرد الذي يمحور ذاته بالتماشي مع
أبناء جلدته وبلدته التي يقطنها. ولا بد أن يتذكر المرء بأن
الفرد هو من يختار طبيعة استثماره في هذا الدور. فقد يقوم
الإنسان بخيارات واعية يقرر فيها أن يصبح عالميا أو محليا
بالاعتماد على مهارته الخاصة وما يتوقعه من نتائج عائدة إلى
طبيعة ما يتخذونه من خيارات. ظهر مصطلح «القرية العالمية» في
أواخر الستينات على لسان مدير الاتصالات الكندي (مارشال
ماكلوهان) في ردة فعل واضحة على الاتصالات التي كانت قوية في
الأصل ذلك الحين، ولم يستطع ماكلوهان إدراك الطبقة العالمية
الثانية في ذلك الحين، لأنه كان من المستحيل عليه إدراك الاحاطة
أو توقع ثورة التواصل الاعلامي الشخصي المباشر عبر القارات في
يومنا هذا. وبالتالي يصبح الاحساس بعدم التساوي الاقتصادي مختلفا
في عالم اليوم. فقد ظهرت تسميات عديدة تطلق على مفاهيم ذات خلط
وتشابك ادراكات إنسانية كالعولمة والخصخصة والعالمية والشمولية
وغيرها. فقد كان أكثر بروزا وتساؤلا عن ماهيته هو مبدأ العولمة
الحديثة. وضع علماء الاقتصاد تعريفا للعولمة بأنها «حركة
متسارعة نحو عالمية متكاملة حصيلة الغاء القيود التنظيمية
والتفاعل مع التغير المتسارع في تكنولوجيا الاتصالات والحاسوب»
باعتبار أنها ظاهرة من الظواهر التاريخية التي كان من الصعب بدءا
أن يوضح ما هيتها ومحتواها الايديولوجي، كونها ظاهرة شديدة
التعقيد والتركيب بسبب تشابك مجالاتها وتداخلها. العامل الذي صعب
اعطاء تعريف شامل ونهائي للعولمة لما تحويه من مضامين يصعب
إجمالها. لذا كان من الصعب اعطاء توضيح أو وضع صياغة لغوية
مفهومة تغني عن أقوال وآراء مختلفة ومتباينة. غير ان العولمة
في مفهومها العام ذات مضمون تغييري ديناميكي يشير إلى عملية
مستمرة في التحول والتغيير. إلا أنها من خلال التعريفات المتنوعة
المختلفة والصياغة المتعددة فهي –إن صح التعبير- إحدى
الاستعمالات الحديثة صيغت على أساس أهدافها. والعولمة لغويا
استنبطت من كلمة Globalization الانكليزية والتي ظهرت أول مرة في
الولايات المتحدة الأمريكية وتعني تعميم الشيء وتوسيع دائرته
ليشمل الكل. ونرى أن العولمة بلغتنا الألمانية هي Globalisierung
وهي ترجمة الأصل الفرنسي الانكليزي، فهناك توافق أو نوع من الربط
بين تلك الصيغة وبين المصطلح الانكليزي Privatization وهي
الخصخصة بالرغم من أن المصطلح الأخير يحمل دلالة مغايرة أو
مضادة.. حيث تعني هذه الكلمة نقل الدولة إلى الخواص. وبالرغم من
أن الاختلاف وارد في المصطلح وطبيعي، إلا أن الرجوع إلى أصل
الكلمة وجذورها يساعد كثيرا في تحديد معنى محدد وسليم. فكلمة
Globe تعني الأرض وGlobal صفة العالم الواسع، وGlobally هي جميع
أنحاء العالم all over the world، وهذا يدل على الشمولية. ومن
هنا تنطلق فكرة الشمول، لكن باختصاص مغاير لمفهوم العالم، إذ
يفهم البعض أنها رأسمالية والبعض الآخر يفهمها الاستعمارية. لكن
الأمر مختلف جدا، إذ أن العولمة ذات مفهوم اقتصادي وجغرافي
واجتماعي في آن واحد لا دخل له بالهيمنة ولا بالسيطرة المطلقة،
فهو يمضي بدافع الأفكار والاهداف المنشودة بالوحدة المنفعية بين
سكان البسيطة نحو اتصال واحد في جميع المجالات التي من شأنها أن
تعطي الفرد القدرة على تسخير مقدراته. وهناك آراء آخرى تطرح على
مائدة النقاش في مفهوم العولمة، فهناك رأي يقول أن العولمة هي
جعل الشيء على مستوى عالمي لا اقليمي أو محدد بأطر أنظمة لا
ترتبط بارتباط الدول الأكثر تطورا. بمعنى آخر، نقل الشيء من
الحيز المحدود إلى الحيز اللامحدود.. وهذا يعني أن الحركة
والتعامل السياسي والتبادل الاقتصادي والتفاعل الثقافي سيكون على
مستوى العالم دون اعتبار للحدود الجغرافية المعزولة للدول
المختلفة. وهذا الشيء هو الذي سيطرح اشكالية الدول القومية أو
العرقية أمام هذه الكونية المفتوحة. أما الرأي الآخر فيقول أن
تعريف العولمة لا يقتصر على ذلك، أي مجرد نقل الحركة والفعل إلى
نطاق عالمي بشكل محايد، وإنما تعرف العولمة كما يذكرها الامريكان
في أدبياتهم هو تعميم الشيء وتوسيع دائرته.. أو بعبارة أخرى أكثر
دقة تعميم نمط من الأنماط الفكرية والسياسية والاقتصادية الذي
يختص به جماعة معينة أو نطاق معين أو امة معينة على الجميع أو
العالم بأجمعه. وقد ذهب البعض إلى نعتها بالعالمية إلا أن
العالمية لها منافذ فهمية أقرب أن تكون مغايرة من أن تكون
متشابهة. فالعالمية مفهومها مقنن لا يمكن أن يخرج فوق حدود
السلطة. ويرى البعض أن العولمة هي صورة ثانية للشمولية غير أن
هذا المبدأ كان له رادع الشروط التي تتوقف عليها العولمة وتكون
ذاتية توفر لها امكانيات عالمية. وتوفر الشروط اللازمة ليصبح
الأمر على المستوى العالمي. أما الشمولية فهي نظام يعتمد على
السير وفق تقنيات متقدمة، وآليات للسلطة السياسية التي تمارس
بدون قيود أو كوابح عن طريق قيادات مركزية لحركة نخبوية للتأثير
في ثورة اجتماعية شاملة تتضمن بناء الإنسان على أساس ايديولوجية
محدودة ومعلنة في القيادة في وضعية عامة في جو من الإكراه
الجماعي وإن جوهرها إبطال كل الحدود بين الدولة والتكوينات
الاجتماعية في المجتمع المدني. بمعنى أن نظام الحكم وجميع هياكله
الحكومية متسلسلة ومتكاملة.. وكل العلاقات الإنسانية وكل
النشاطات السياسية الشرعية تبعا لتأييد الهيكل الحكومي.. ما يعني
إن الشمولية تهدف إلى تطبيق كل الحدود بين الدولة والتكوينات
المختلفة في المجتمع المدني على كل المستويات. وبلغة أخرى، نقول
أن الايديولوجية الشمولية هي مبدأ ابتلاع المجتمع المدني من لدن
الدولة. أما العولمة فإنها تعمل على السعي لإلغاء الحدود بين
الدول.. والكف عن دور السلطة إلا في حدود ما تراه العولمة يحقق
أهدافها.. بمعنى آخر أن العولمة ايديولوجيا اللاقومية والحد من
أدوار السلطة أو الدولة.. والغاء المسافات بين الشعوب.. وفرض
نموذج عالمي موحد يشمل كل جوانب الحياة المدنية.. وبلغة أخرى أن
الايديولوجيا العولمية ما هي الا احتواء الدولة أو المجتمعات
المدنية داخل نموذج عالمي واحد، اما العالمية فإنها تختلف كل
الاختلاف عن المفاهيم السابقة. حيث أنها تعني أولا وأخيرا جعل
الشيء على مستوى العالم مع احتفاظه بخصوصية وهويته.. دون الغاء
الحدود الخاصة به.. أي اعطاء صفة عالمية دون الغاء خصوصية
المحلية وهويته القومية. وهنا يوجد تمييز بين العالمية
والعولمة. فالعالمية عبارة عن علاقات من التعامل بين الدول
المختلفة سواء في إطار علاقات دبلوماسية أو تجارية أو عسكرية أو
تحالفية أو ثقافية إلى غير ذلك. وتختلف هذه العلاقات باختلاف
طبيعة العلاقة ومداها وعمقها ولكنها لا تتخذ شكلا ثابتا شاملا
وسنجد تجليا لهذه العلاقات طول التاريخ القديم والحديث بمستويات
واشكال مختلفة فالعالمية هي صفة لتلك العلاقات عندما لا تقتصر عن
ثنائية أو أكثر وإنما تشكل نسقا من العلاقات بين دول العالم أو
معظمها في مرحلة من مراحل التاريخ عبر مساحة ممتدة نسبيا مكانيا،
وزمانيا.. إن أبرز أشكال هذه العالمية وأشدها توسعا وشمولا
جغرافيا وسياسيا، كانت نتيجة للتحالف العالمي العملي بين
النظامين الايديولوجيين المتعارضين الاشتراكي والرأسمالي في
الحرب العالمية الثانية. ولكي لا نستطرد طويلا نشير إلى العالمية
بعيدا عن العولمة هنا. فالعولمة تخص التكنولوجيا والسوق والسياحة
المعلوماتية أما العالمية فتخص حقوق الإنسان والحريات والثقافة
الديمقراطية. لذا عندما نقول إن العولمة هي جعل الشيء على مستوى
عالمي لا يعني ذلك ما توحي به الكلمة "عالمي".. ففارق بأن تصل
ثقافة لبلد ما بمستوى العالمية وبين ان تكون ثقافة هذا البلد
معولمة. ونظرا لأهداف العولمة وسعيها الحثيث وراء تحالف سكاني
في تعميم الأفكار والتعاملات والتفاعلات الثقافية بعيدة عن
شمولية الفكر الواحد أو المبدأ القائم على الخصوصية الفكرية
والسياسية والاقتصادية فإن ظهور طبقة اجتماعية حرة الفكر متوحدة
الهدف تسعى إلى العالمية بين افرادها ليس لها مكان محدد تقيم
عليه بناءها لأنها ليست ذات عنصر أو دم واحد عمل على ظهور خصوم
عدة لهذا المفهوم الحديث. وأكثر ما يخيفني هو المستقبل، وهو
كيفية تتصرف الطبقة العالمية مع ازدياد قوتها وتأثيرها على
اقتصاديات العالم والى أي مدى سيصلون في عدم إحساسهم بالناس
الذين يشاركونهم الجوار؟ والأمر الأكثر أهمية، ما هي العواقب
السياسية لظهور استياء المحليين من العالميين.
(*) باحث في علم
الاجتماع
(**) مترجم من
العراق.
|