- أر يد أن أرد الغرب إلى حدوده
الطبيعية
- كيف يمكن فك الارتباط بين
أيديولوجية السلطة وأيديولوجية الطاعة?
- أسعى لإعادة ترسيخ
العقيدة في مواجهة التخلف والاستعمار والتجزئة
يعد
المفكر المصري حسن حنفي واحدا من أبرز أعلام
الفكر والثقافة في الوطن العربي، فهو يتميز بإنتاجه العلمي الغزير،
وبإسهامه في إثراء المشهد الثقافي وتحريكه وفتح آفاقه. وخير دليل على
ذلك ما يقدمه في مشروعه الفكري: ( التراث والتجديد)، الذي يعد بمثابة ثورة في
ميدان الدراسات الإسلامية تتناول معظم الإشكاليات الفكرية والمجتمعية
المضطرمة في وطننا العربي، وتتصدى لها بالمعالجة العميقة التي لا تقتصر
على تبين مشكلاتها الذاتية ولا تكتفي بتحليلها من الداخل، بل إنها، إلى
جانب ذلك، تفحص صلتها بالخارج وتدقق علاقتها التاريخية به. ومن هنا
يلاحظ أن الدكتور حسن حنفي يركز صراحة أو ضمناً
على نقد نظريتين اثنتين فيما يتصل برؤية الهوية والتراث والعصر.
أولاهما هي النظرة الماضوية السلفية المنغلقة، والثانية هي النظرة
الاستشراقية المتعالية. ومن المؤكد أن اصطراع الآراء وتخالف وجهات
النظر فيما يقدمه المفكر حسن حنفي ، لا يقلل من
أهمية مشروعه، بل إنه على العكس من ذلك يقدم دليلاً بارزاً على إسهامه
الفعال في إنتاج المعرفة ونقدها. فهناك من يرى أن حسن
حنفي لا يخرج عن منطق الفكر الديني السائد، ويتبع ذلك أن تثويره
لهذا الفكر لا طائل من ورائه، لأن نقد منطق معين لايمكن أن يصدر عن
أرضية هذا المنطق ذاته.وهناك من يرى أنه ما من تطور يمكن أن يصيب
المجتمع العربي إلا إذا انطلقت شرارته من قلب الفكر السائد فيه، فتتغير
النفوس والرءوس تمهيداً لتغير الواقع، ويترتب على هذه النظرة أن إسهام
الدكتور حسن حنفي هو فعل مهم ومؤسس في هذا
الاتجاه. وبين هذين الموقفين تتعدد المواقف بتعدد اتجاهات الفكر العربي
المعاصر. من هذا الباب كانت هذه المواجهة التي قام بها الدكتور وفيق
سليطين وهو استاذ جامعي وشاعر من القطرالسوري سبق أن أصدر عدداً من
الدواوين الشعرية والدراسات الأدبية.
* يعد كتابكم (
التراث والتجديد) مقدمة لمشروع فكري
يطمح إلى تجاوز الوضع العربي الراهن ويسعى إلى تأسيس زمن مغاير ونهضة
شاملة. هل يمكن تعريفنا بهذا المشروع، ما تحقق منه وما ينتظر تحقيقه
?
ـ
مشروع التراث والتجديد وعيته منذ الصغر، وأنا مازلت أرى قنابل دول
المحور على مصر، ومصر لا ناقة لها ولا جمل في الحرب. وكذلك الأمر في
ضياع فلسطين عام 1948 في مصر. ثم في اللحظة الحاسمة إبان الصراع بين
الضباط الأحرار والإخوان المسلمين عام 1954 في مصر. هكذا اصطدمت
الشرعيتان: شرعية الماضي في التراث وشرعية الحاضر في الثورة، شرعية
الإسلام وشرعية التغيير الاجتماعي، شرعية أن أكون مسلما مدافعا عن
هويتي، وفي نفس الوقت شرعية أن أكون حراً مساويا للآخرين، موحدا ناميا
تنمية مستقلة.
مشروع
التراث والتجديد بدأ من هذا الأتون في أزمة العصر، هذه الثنائية التي
قتلتنا، هذه الحرب بين الإخوة الأعداء.. سلفيين وعلمانيين.
السلفيون
يعرفون كيف يقولون ويعطون خطابا يدغدغ إيمان الناس، ولكنهم لا يعرفون
ماذا يقولون. ولهذا فهم لا يدخلون في أتون تحرير الأرض والعدالة
الاجتماعية والمساواة وحرية المواطن. والعلمانيون يعرفون ماذا يقولون،
فيتدخلون في قضايا الحرية والشعب والمجتمع المدني.. لكنهم لا يعرفون
كيف يقولون، فهم يقولون ذلك على لسان ( كارل ماركس) أو ( جون ستيوارت ميل) أو ( فيخته ) و(هيغل). وثقافتنا مازالت أمية، والجماهير لا
تعرف هذه النخبة المثقفة من العلماء. ومن هنا أتى مشروع التراث
والتجديد لكي يعطي خطاباً ثالثاً للناس. يعرف كيف يقول أي يستعمل
مفاهيم التراث، وفي نفس الوقت يعرف ماذا يقول، أي لا يتكلم إلا فيما
يمس الصالح العام، أي في قضايا الحرية والتنمية والعدالة الاجتماعية.
لقد
نشأ مشروع التراث والتجديد، لا أقول من أجل التوفيق، بل لإعطاء نوع من
الإثبات، إثبات أن الشرعيتين لا تتصادمان، فالماضي مازال حاضراً فينا
ولا أستطيع تجاهل هذه المرحلة التاريخية إذا كنت واقعياً. صحيح أن
الغرب قطع مع الماضي في عصر النهضة، ولم يعد التراث القديم ثقلا على
كاهل الوعي الأوربي، أما أنا العربي فالقديم مازال حيا مخزونا نفسيا
عندي. وهذا المخزون لا حل له إلا بالتعامل معه.
الواقع
والتنظير
* ما الأجزاء التي تحققت من هذا
المشروع بعد المقدمة المنهجية الصادرة عام 1980 ?.
ـ
حصلت المحاولة قبل ذلك في رسالتي للدكتوراة عام 1965عن مناهج التفكير ـ
محاولة لإعادة بناء علم أصول الفقه ـ وأعدت بناء علم أصول الفقه على
أساس الوعي الفردي في مواجهة العالم. والمحاولة الثانية كانت في سنة
1988/89 ـ في كتاب ( من العقيدة
إلى الثورة) وأنا أحاول إعادة بناء علم أصول الدين، حيث أعيد بناء
العقيدة في مواجهة التخلف والاستعمار والتجزئة. وأنا أعد منذ سنة 1984
لإعادة بناء علوم الحكمة: المنطق والطبيعيات والإلهيات.
أفكر
كيف أعيد كتابة ( الشفاء
) و(النجاة) من جديد، كيف أعيد
كتابة رسائل إخوان الصفا من جديد، بعد أن مر على ذلك ألف عام، وبعد ذلك
أعيد بناء علوم التصوف والعلوم النقلية، ثم أعيد بناء العلوم الطبيعية
والرياضية. أي أنني أعيد بناء العلوم التي توقفت منذ ابن خلدون حتى
الآن، وتلك هي جبهة القديم. ولكن هناك جبهة الجديد، جبهة الحضارة
المجاورة لي.
أنا
الآن مواجه بحضارة الغرب منذ خمسة قرون، وهنا تقع الجبهة الثانية من
المشروع، وقد أصدرت في هذا الاتجاه مقدمة نظرية مع تطبيق عملي و(مقدمة
في علم الاستغراب). أما الجبهة الثالثة فهي مأخوذة من الواقع والتنظير
المباشر له. وإن كنت أكتبه بطريقة شعبية خطابية كلما اشتدت الأزمة
بالوطن. مثل ( قضايا المعاصرة)
بجزأيه، اللذين كتبا بعد هزيمة 1967، و(الدين والثورة في مصر) ثمانية
أجزاء كتبت بعد الصلح مع إسرائيل. وحتى الآن هذه شهادات على العصر،
مادة خام ربما أحلتها فيما بعد إلى تنظير دقيق.
تغيير شعوري
* بخصوص الكيفيات البحثية
والمنهجية يرى د. حسن حنفي أن التغيير لا يحصل
مالم يحصل الوعي بالتغيير. ويستفاد من ذلك أن التغيير الموضوعي لا يتم
إلا بالتغيير الشعوري. هل ترون أن هذا التغليب للجانب الذاتي يفضي إلى
تناول مثالي في التشخيص والمعالجة ?
ـ
سؤالك مهم طبعا وكثيرا ما يسألني الناس بعد أن أبدع أحد الأعمال، ما
منهجك في ذلك ? ومهما أجبت
فإنني الخاسر. لو قلت إن منهجي تحليلي أو وصفي أو بنيوي أو جدلي،
قالوا: فلم تنقد الغرب إذن ? أنت ابن الغرب. فأرد: ( وداوني بالتي كانت هي الداء). ومع ذلك يظل
موقفي ضعيفاً. لو قلت إن منهجي هو منهج تحليل التجارب، ردوني إلى أحد
المناهج الغربية، ( المنهج
الظاهري) وأنا قمت برسالتي الأولى عن المنهج الظاهري في عام 1965. ولي
كتابان بالفرنسية في تفسير الظاهريات وظاهريات التفسير. على أية حال
يبدو أن المنهجية ـ وهي السمة الغالبة في الفكر الأوربي ـ أصبحت الإطار
المرجعي الوحيد لأي بحث عربي يبدع شيئاً.
قالوا
عن الجابري إنه بنيوي، وعن عبدالله العروي إنه ماركسي، وعن عبدالرحمن
بدوي إنه وجودي، وعن عثمان أمين إنه جواني ديكارتي كانطي مثالي. لا
أدري كيف أخرج من هذا المأزق، وعندما تصعب الإجابة أقول: ومنذ متى يقدم
الطاهي سر طهيه إذا ما أعجب الناس بطبقه ? ومنذ متى يقدم بتهوفن طريقته في كتابة
( نوتته ) الموسيقية بعد أن يستمع الناس إلى سيمفونيته
?!.
إن
المنهجية مهمة بطبيعة الحال، وأنا أردت المنهجية التي أشرت إليها في
( التراث والتجديد)، لأن التراث
هو حي بوصفه مخزوناً نفسياً. وأنا أحيل النص إلى التجربة الشعورية التي
أحياها، وفي الوقت نفسه أنقل التجربة الشعورية إلى تجربة العصر وتجربة
المجتمع.
إن
منهجي هو منهج تحليل التجارب، تحليل النص باعتباره تجارب حية، لأن
التراث مازال حياً فينا، وهو من ثم إعادة اختيار بين البدائل، فإن لم
يسعفني ذلك أبدعت بدائل جديدة لم يبدعها القدماء. صحيح أن لي منهجاً
ولكن مهما تكلفت في المنهج فإن الغرب قد فاز وأصبح الإطار المرجعي
الغربي هو مقياس الحكم باستمرار، وأصبح البحث العربي في موقف لا يحسد
عليه لأن إبداعه يحال دائما إلى مذهبية غربية. قد نكون بحاجة إلى مزيد
من الوقت والعمر حتى تتعدد مراكز الإحالة فيما يتعلق بقضية البحث.
ظاهرة
تاريخية
* في إطار المنهج أيضاً،
وبخصوص الموقف من الغرب، يلاحظ أن هناك من يستدعي التكنولوجيا ويرفض
أساسها العلمي. والدكتور حسن حنفي يفصح بشكل ما
عن موقف من الفكر الغربي بصيغة تجريدية وإطلاقية. فهل يصح اتخاذ مثل
هذا الموقف حيال الفكر الغربي?
ـ الإجابة عن هذا السؤال تقتضي أولا حل
الإشكال الآتي: هل هناك علم مجرد أم لا، بصرف النظر عن الغرب أو الشرق
? هل المعرفة البشرية بحث مجرد
ونزيه عما يسمى الحقيقة أم أن المعرفة البشرية بطبيعة تكوينها ونشأتها
هي معرفة تعبر عن حاجة اجتماعية ?.
لو
أخذت الحل الأول يكون سؤالك صحيحاً. إلى أي حد أستطيع أن أقدم حكماً
مطلقاً على الغرب ?..
ولو
أخذت الحل الثاني تسهل الإجابة، لأن المشروع المعرفي الغربي ليس بحثا
عن حقيقة. فعندما أسقط الغرب الإطار النظري القديم الموروث من الكنيسة
وإرث عصر النهضة، بدا الواقع عارياً، فاجتهد العقل الاوربي من أجل
التنظير للواقع في العلم وفي السياسة وفي كل شيء، من أجل السيطرة على
الطبيعة. فالمشروع المعرفي الغربي ليس مجرداً. باعتباري مثقفا عربيا لا
يفرق بين العلم والوضع، وبين الرؤية والالتزام، وبين النظر والعمل،
أريد أن أقدم رؤية معدنية جديدة. أريد أن أزحزح الحضور الغربي في الوعي
العربي، فالحضور الغربي في الوعي العربي أصبح منافساً للتراث القديم
الحي، ويخلق نوعاً من الازدواجية في الولاء الثقافي. وقد خلق ظاهرة
التغريب، وشق الصف الثقافي في الصراع بين الغربيين والسلفيين، وهذا
إطلاق للغرب أيضاً. أنا أريد أن أرد الغرب إلى حدوده الطبيعية، أريد أن
أبين أن الثقافة الغربية ظاهرة تاريخية مثل كل الثقافات، ومثل ثقافتي
أنا. ولهذا فأنا لم أطلق الحكم على الغرب إلا من أجل تحجيمه ورده إلى
حدوده الطبيعية.
منهج تاريخي
* يشير الدكتور حسن حنفي إلى وجود أزمة في مناهج الدراسات الإسلامية،
مثل المنهج العلمي، أو المنهج التاريخي تحديداً. السؤال: أين تكمن من
هذه الزاوية أهمية المنهج الفينومينولوجي الذي يصدر عنه الدكتور حنفي
في مواجهة موضوع التراث ?
ـ
أنت أيضاً وقعت هنا في الرد المنهجي باعتبار أن الغرب هو الإطار
المرجعي الوحيد للحكم المنهجي على الباحثين من خارج الدائرة الغربية،
فوصفتني بالمنهج الظاهراتي الفينومينولوجي.
*
هكذا بدا لي الأمر.
ـ
وهكذا يبدو في منهج الأثر والتأثر الذي أنقده باستمرار. وهو إذا وجد
تشابه بين ( أ ) و(ب) وهناك علاقة تاريخية بينهما، وكان
( أ ) أسبق في الزمان، يكون ( أ ) قد أثر في ( ب ) ويكون ( ب ) قد تأثر بـ ( أ ) لكن هناك مغالطة منهجية في ذلك، لأن التشابه
بين ( أ ) و(ب) يمكن أن يكون عرضيا.
( اعرف نفسك
بنفسك) قالها أرسطو. و(من عرف نفسه فقد عرف ربه) قلناها نحن في التراث
القديم. و(معرفة النفس معرفة للعالم) قالها كونفوشيوس، فمن أثر في
الآخر ?!.
من
الممكن أن يكون الأمر توارد خواطر، وفي ميدان الفلسفة هناك ما يعني أن
العقل البشري قادر على الوصول إلى أنماط حقائق بصرف النظر عن الأثر
والتأثر.
ومن
ناحية أخرى، فإن منهج تحليل التجارب هو منهج شعبي كما قلت. هناك أمثال
عامية أعتمد عليها كثيرا، وهناك تحليل للتجارب من أجل اكتشاف المعاني
موجود عند الصوفية. فمنهج تحليل التجارب أجده في الأمثال العامية،
وأجده في مواجيد الصوفية، وفي الأدب العربي، وفي القرآن الكريم: وأصبح فؤاد أم موسى فارغا وهذا فراغ الشعور طبعاً. وأنا لا أدري هل يمكن أن يقال إنني
ما كنت قد قرأت هذه الآية وغيرها لو لم أكن قد عرفت الظاهريات
?!.
على
أية حال أنا أخشى أن يكون أحد نتائج منهج الأثر والتأثر هو تفريغ
الإبداع الذاتي لكل الثقافات غير الأوروبية، مادام الغرب هو الإطار
المرجعي المنهجي الوحيد.
لقد
آن الأوان للثقافات غير الأوربية أن تحيل إلى أطر مرجعية متعددة.
ولماذا لا تكون إحالتي إلى البوذية في الهند، التي أعرفها جيدا تستعمل
تحليل التجارب الشعورية ?! ولكن
نظراً لعدم ذيوع الثقافة الهندية والصينية قدر ذيوع الثقافة الأوربية،
أصبحت الثقافة الأوربية هي الإطار المرجعي الوحيد.
ولكن
ماذا لو سيطرت الهند والصين والثقافات غير الأوربية على أجهزة الإعلام
ودور النشر وعلى الأقمار الصناعية ? ومن يدري ? فربما كان هذا العصر قادماً!. وقد يقال في
يوم من الأيام ـ ربما بعد زمن طويل ـ إن منهجي في تحليل تجارب الشعور
هو منهج هندي صيني، نظراً لإحلال الإطار المرجعي الهندي الصيني بدلاً
من الإطار المرجعي الغربي. لكن ـ وهذه أمانة علمية ـ إنما أخرج من
ثقافاتي المحلية ومن أمثالي العامية وتراثي الصوفي، التراث الأصولي
القديم، مزاجاً فلسفياً وقدرة على مخاطبة الناس. والذي يبدأ باستعارة
منهج ويطبقه على موضوع مغاير بهذا التصور الآلى، فإنه يتصور أن المنهج
كالسكين وأن المادة العلمية كالخبز.
مقياسان
للموضوعية
التركيز على القضايا
المنهجية في عملك يتأتى من نقطة إشكالية، وهي أن المعرفة الموضوعية قد
تبدو باعتبارها معطى خالصاً للذات. فهل يلغى المنهج الظاهراتى الواقع
الموضوعي ويحيله إلى واقع شعوري ?
ـ
هناك تصوران للموضوع، التصور التقليدي الذي ورثناه من القرن التاسع
عشر، أي مطابقة الأحكام للوقائع. فعندما أقول: الشمس ساطعة، وتكون
الشمس ساطعة، يكون الحكم موضوعياً، وهذا ما يسمى بتطابق عالم الأذهان
مع عالم الأعيان. وهناك نوع آخر من الموضوعية هو اتفاق مجموعة من البشر
على إصدار الأحكام، وهو الإجماع عند القدماء. وهناك معنى ثالث هو اتفاق
الأحكام مع التجارب الفردية الشعورية، أو اتفاق الأحكام مع حكم البشرية
العام. لكن إذا أردنا أن نتجاوز تصور القرن الماضي لموضوعية العلوم
الطبيعية، التي تجاوزتها هي أيضاً، لأنه في العلوم الطبيعية الحديثة لم
يعد هناك وقائع بمعنى القرن التاسع عشر، فالواقع والطبيعة عبارة عن
تموجات، ومن ثم لا توجد موضوعية، لكن هناك نسبية. أما موضوعيتي التي
أبغيها فهي: إلى أي حد يتفق ما أقوله مع تحليلات الآخرين لو قاموا
بتحليل نفس التجارب ونفس النصوص ? وإلى أي حد هو مؤثر وفعال في عصري، أي في حل
إشكالاته الرئيسية ? فالموضوعية
موضوعية في تحليل تجارب مشتركة وفي فعاليتها في إحداث التغير
الاجتماعي. ومن ثم عندي مقياسان للموضوعية: اتفاق مجموعة من الباحثين
على شيء، ومدى تأثير ذلك في الواقع الاجتماعي. وهما شرطان جديدان أخرج
من خلالهما عن شبهة العزلة والذاتية، فتصورنا التقليدي للذاتية هو أيضا
تصور من القرن التاسع عشر، على أنه ذات بلا مضمون، ولا موضوع. أما إذا
عدنا إلى التصورات الذاتية عند هيغل وعند فيشته، فالذاتية في أعلى
قممها إنما هي الموضوعية، وإذا تصور الموضوع فإنه يصبح ذاتاً.
حضور التراث
* هناك من يصنف الدكتور
حسن حنفي في تيار السلفية الجديدة، ما قولكم في
ذلك ?
ـ التصنيفات
بالنسبة لي عديدة، فأنا عند السلفيين ماركسي، وأنا عند الماركسيين
سلفي، وأنا عند الحكومة إخوان شيوعي.
التصنيف
بذاته له ميزات طبعا، وإحدى هذه الميزات العلمية، فالمسلمون بدأوا
العلوم بتصنيفها، ولكن عيبه هو أن عليك أن تضع الجديد في إطار من
الأدراج القديمة، ومن ثم لا يكون جديداً إلا من حيث المادة، أي لا يكون
جديداً من حيث الصنف. إن البضاعة الجديدة هي التي تتجاوز التصنيفات
والأدراج القديمة، فلابد للبضاعة الجديدة أن تخلق درجها، وتصنيفي سلفيا
جديدا هو للتمييز من أحمد بن حنبل وابن تيمية ورشيد رضا.. الخ. سلفي،
لأن التراث القديم مخزون نفسي عندي، وجديد لأن عندي قضايا العصر،
وبالمحصلة ( سلفي جديد). وأنا
عند السلفيين ماركسي لأنني لا أستعمل إلا مناهج التحليل الاجتماعي، وهي
مناهج أصولية قديمة ولكنهم لا يعرفون. وأنا عند الماركسيين سلفي
لأنني أستعمل التراث القديم ولا أقطع معه. وهذه الرؤية هي أكثر واقعية
من الماركسية لأن الماركسية رؤية طوباوية لا تبدأ بتحليل الواقع، ولو
حللوا الواقع الاجتماعي لاكتشفوا حضور التراث القديم.
لكن
التصنيف، على أية حال، لا يزعجني فما أكثر ما قيل من تصنفيات متماثلة.
هناك
رسالة عني في تونس تصفني بأنني ماركسي جدلي، وهناك رسالة عني في الأردن
تصفني بأنني مثالي هيغلي، وهناك رسالة عني في أمستردام تصفني بأنني
إنساني من أنصار الوضع الإنساني. وهذه كلها أحكام تصدق أحياناً، ولكنها
لا تصدق كلياً. فما أكثر ما قيل عن أرسطو إنه مثالي. إذا كان في الذهن
المنطق فهو تجريدي، وإذا كان في الذهن الطبيعي فهو إنساني.. الخ.
وما
أكثر ما قيل عن كانط، واختلفت الآراء. وعلى عكس ما يتصور، فإن هذا
التباين في التصنيف يسرني، فالاشتباه موجود عند كل فيلسوف، وهو السبب
في تنوع الأحكام عليه. ولكن التصنيف الوحيد الذي أقبله هو إلى أي حد
تطابق تحليلاتي الواقع أو لا تطابقه، وإلى أي حد تطابق العصر، وهل تعبر
عن ضرورة ملحة أم لا تعبر ?!.
متشابه
مزدوج
* لا يخفي أن التصنيف ذو
صلة بالمعيار وهو ينطلق من زاوية نظر. يبدو لي مثلا أن التصنيف الذي
ذكرته يصدر عن إشارات في كتابكم تتصل بالكلام على تجديد مادة العلوم
دون بنائها. ومثل ذلك ما نجده أيضاً في الكلام على التجديد اللغوي، وفي
الكلام على الشعور باعتباره ميدان المعرفة والوجود. وهنا نرى الدكتور
حسن حنفي يضخم إحدى الملكات الإنسانية ويرفعها
إلى مستوى المطلق، في مقابل بقاء الملكات الأخرى في حدود نسبية، مما
يعني أن هناك عزلاً لأحد الجوانب وتضخيما له على حساب غيره. فما قولكم
في ذلك ?
ـ
أنا أعيش في عصر تشابكت فيه القوى والتيارات، هذه نظرتي الواقعية
للعصر. فأنا لا أستطيع إلا أن أفكر: لمن أكتب ? أنا لا أكتب للتاريخ بل أكتب لعصر كي أسهم في
تطويره وتغييره. هناك ما يسمى بالثقافة السلفية الإسلامية الحاضرة،
والتي تبتلع الدولة شيئا فشيئا. والخطاب العربي من ليبرالي وماركسي
وقومي يتساقط في إطار الخطاب الإسلامي العام ويبدو عاجزاً، وإن لم يجدد
نفسه فقد يصل إلى حد الإفلاس. أمامي هناك مجموعة أخرى من العصر. فأنا
أكتب لمجموعة وفي بنائي وأسلوبي يظهر هذا الاشتباه ولكنه اشتباه خادع
لأن هناك نظاما للأولوية. خذ مثلا كتابي: ( من العقيدة إلى الثورة)، الكساء هو البناء
القديم ( الأرابيسك )
الخارجي، العقليات والسمعيات،
الموضوعات الأربعة، ما ورثته عن الأشاعرة، هذا هو الطلاء الخارجي، لكن
ادخل إلى المنزل لا تجد فيه البنية القديمة بل تجد أن هذه البنية قد تم
تفريغها، وأن الأساس القديم قد تم نسفه، وتجد أن المنزل قد تم إعداده
من الداخل لوريث جديد لم أقله سيقوله غيري.
مشروع سياسي
* إذن، يرى د. حسن حنفي أنه من الممكن تغيير المحتوى مع المحافظة
على الشكل القديم، فهل هي قضية توفيق? وهل يمكن في إطار التجديد تنحية
الشكل والتعامل معه باعتباره معطى ثانوياً.
ـ
في مرحلتي الحالية النفسية والذهنية والتكوينية، أنا مازلت هنا متأثرا
بالقدماء في التمييز بين اللفظ والمعنى. ومع أن البنيويين تجاوزوا هذه
الثنائية فأنا مازلت في هذا الجانب تقليدياً.
فعبدالقاهر
الجرجاني يرى أن المعنى هو الروح، واللفظ هو الثوب. وتستطيع الروح أن
تأخذ أشكالا جسدية متغيرة. وأستطيع أنا أن أغير المعنى دون أن أغير
الثوب المضمون هو الأهم. وما دمت قد غيرت المضمون، فربما يستطيع
المضمون في يوم من الأيام أن يفرض شكله ويغير الأرابيسك الخارجي وربما
يتساقط الأرابيسك من تلقاء نفسه. ولكن حتى الآن حرصي على التغيير من
خلال التواصل، وحرصي على الجديد من خلال القديم. وربما كانت هذه هي
الروح العربية.
* عرفت أن د. حسن حنفي كان ـ فيما مضى ـ يعمل لإصدار مجلة باسم
(اليسار الإسلامي) هل يمكن تعريفنا بهذا المشروع? وما سبب انقطاعه?
ـ
أنا أكتب على ثلاثة مستويات لثلاثة أنواع من الجمهور. فأكتب للعلماء
وهو مشروع التراث والتجديد، منذ رسائلي الثلاث عن ظاهريات التفسير
وتفسير الظاهريات ومناهج التفسير إلى التراث والتجديد. وأكتب على مستوى
متوسط بين الخاصة والعامة، وهي دراساتي الجامعية: دراسات فلسفية،
ودراسات إسلامية وقضايا معاصرة. ثم أكتب على مستوى العامة، وهي
الكتابات التي أكتبها في الصحف، ثم تجمع بعد ذلك. الفكرة واحدة، لكن
طريقة التحليل والمخاطبة متنوعة، لكل على قدر مستواه الثقافي كما كان
يفعل الفقهاء القدماء، فابن تيميه يكتب الرد على المنطقيين، ولا يكتب
هنا إلا بأسلوب المناطقة، ويكتب مجموعة الفتاوى في المسائل التي يتكلم
فيها للناس.. إلخ. و(اليسار الإسلامي) جزء من الخطاب الجماهيري يمس
أفكار التراث القديم، ولكن ليس بلغته ودقته وتحليلاته. إنها تحويل
لمشروع التراث والتجديد إلى مشروع سياسي، فالثقافة سياسة، والسياسة
ثقافة. كنت أريد أن أبدع علمياً وأن أؤثر سياسياً. والذي حدث أنك تعيش
مرة واحدة، وأنك إذ تصدر مجلة شهرية أو حتى فصيلة فأنت لا تستطيع أن
تقوى على ذلك بمفردك، ولابد من مؤسسة وراءها. أنا الذي كتبت المتن في
معظمه، وأنا الذي طبعتها، وأنا الذي أنفقت عليها، وأنا الذي ذهبت إلى
القضاء للإفراج عنها، وأنا الذي كنت أوزعها على الباعة والقراء ولا
أسترد حقي من ذلك، يكفي أنهم يوزعونها ولا يخافون. وأنا لا أستطيع أن
أقوم بذلك باستمرار. لكن القضية الحاسمة التي جعلتني لا أقوى على
إصدارها هي ندرة الكتابات، هناك كتابات إسلامية كثيرة ولكنها تقليدية،
وهناك كتابات علمانية كثيرة ولكنها علمانية. أين الكتابة في اليسار
الإسلامي ? أين الإسلام الثوري
? أين الإسلام الاجتماعي
?.. إلخ هذا ما لم أجده. إنني
الآن، وأنا أجوب العالم العربي، جمعت العديد من الكتابات المتناثرة
وفكرت في إصدار عدد وثائقي حتى يعرف بعضنا بعضاً. لكن العمر يتقدم،
وأرى أن التوفر على المستوى العلمي هو الأولى بما تبقى من عمر، وأترك
للأيام القادمة أن تحول المشروع من مستواه العلمي التقليدي إلى مستواه
السياسي الجديد.