القاهرة - مكتب (الجزيرة)
د. محمد شومان - فؤاد السعيد - عتمان
أنور:
الدكتور عبد الوهاب المسيري يعد من
أبرز المفكرين الذين قدموا مشروعا معرفيا شبه متكامل
يربط بين الفكر والواقع، يسعى في خضمه إلى تأسيس
حداثة إنسانية تستلهم المبادئ الإسلامية والعربية
وليست الغربية. وتأتي أهمية المسيري أنه - على عكس
الكثيرين - قدم مشروعه المعرفي بدءا من البدايات
ورغبته في تأصيل ظاهرة الصهيونية؛ ما قاده إلى دراسة
المجتمع الغربي والحداثة الغربية والعلمانية؛ الأمر
الذي أدى به إلى انتقاد وإظهار الكثير من الجوانب
الخافية للمشروع المعرفي الغربي التي يتم التغاضي
عنها من قبل الغربيين أنفسهم؛ ما دعاه إلى بناء وعي
مختلف يتيح له الخروج عن الأنماط السائدة في التحليل
المقتصرة على الملاحظة والرصد ليستطيع وضع أصبعه على
أوجه القصور التي عجزت الأنماط المعرفية والتحليلية
السائدة عن إدراكها.. دعا كل هذا المسيري إلى تأسيس
مشروع معرفي متكامل ينتقل من النقد إلى النقض، ومن
التفكيك إلى البناء، ومن موقف الناقد لموقف المنظر،
فوضع أسس التفسيرية والنماذج التحليلية كوسيلة
للتحليل، والنموذج كأداة معرفية وله آراء كثيرة
نطالعها في حواره ل(الجزيرة الثقافية) فيما يتعلق
باستخدام اللغة وسبل بناء الحداثة الإنسانية وسعيه
إلى تأسيس تقاليد للحوار الفكري في ثقافتنا العربية
المعاصرة، التي منيت في العقود الأخيرة بآفة الصوت
الواحد والرأي الواحد.
والدكتور المسيري يمتلك مسيرة فكرية
وعلمية زاخرة بدأها كأستاذ أدب إنجليزي في جامعة عين
شمس - مصر وتخصص بعد ذلك في الصهيونية وتواريخ
الجماعات اليهودية. وتعد موسوعة اليهود واليهودية
والصهيونية من أهم أعمال المسيري بعد أن اعتكف حوالي
عشرين عاماً لإنجازها ليكون أول علم متكامل في
ثقافتنا العربية يتناول الجماعات اليهودية والحركات
الصهيونية. كما صدر للمسيري العشرات من المؤلفات
والمترجمات التي تؤكد على هذه المسيرة وتبرز مشروعه
المعرفي.. والى تفاصيل الحوار:
* يصنف البعض مشروعك الفكري ضمن تيار
تجديد الفكر الإسلامي بينما يضعك البعض الآخر ضمن
تيار الفكر الإنساني الأوروبي والمدرسة النقدية داخل
الفكر الغربي نفسه، كيف تصنف أنت مشروعك الفكري؟
- لا يوجد تناقض في البدايات، ولكن
توجد اختلافات جوهرية في النتائج التي أصل إليها
مقارنة بما يصل إليه أصحاب التيار الإنساني والنقدي
في الغرب. المقدمات واحدة وهو أن التيار النقدي أدرك
خطورة الحداثة المادية والتوجهات الاستهلاكية وخطورة
بعض عناصر الحداثة مثل الترميز والتشيؤ والاغتراب..
وهناك معجم شامل من المفاهيم السلبية التي أدت إلى
الانحراف عن جوهر الإنسان، كل هذه الأمور تأثرت بها
وتفتحت عيوني على مشاكل الحداثة من خلالها، لكن أنا
حينما أعرف الجوهر الإنساني أجد أنه مختلف عن
الطبيعة؛ فالإنسان ليس بالكائن المادي وحسب، إنه
يعيش في عالم الطبيعة وعالم المادة لكن توجد فيه
النفحة الإلهية وأرى أن الإنسان ليس أحاديا مثل
الكائنات الطبيعية وإنما يتميز بانتمائه للمادي وغير
المادي ولذلك أخذ الإنسان على أنه إشارة إلى ما وراء
الطبيعة، إشارة إلى ما وراء السطح المادي وبالتالي
أرى أن حياة الإنسان مرتبطة بالله سبحانه وتعالي..
{نَسُوا اللَّهَ فَأَنسَاهُمْ أَنفُسَهُمْ}.
* هل يعني هذا اعتبار منهجك تركيبيا
أو توفيقيا بين المناهج الغربية وبين الرؤية
الإسلامية؟ وما هي اختلافاتك الفكرية الأساسية مع
التيار النقدي الغربي خاصة أن بعض فلاسفته قد اهتموا
أيضا بالجانب الخاص بافتقاد التواصل الاجتماعي
والإنساني كما نجد عند هابرماس مثلا؟
- الاختلاف الأساسي هو أن الحداثة
المادية تفكك الإنسان وتحيله إلى ما هو غير إنساني،
هذا ما لا أتفق معه تماما، وطالما بقيت داخل الإطار
المادي إذن يرد الإنسان إلى المادة أو كما يسميها
بعض الغربيين الطبيعة أو ما وراء الطبيعة.. يعني
طيلة الوقت تحاول بعض تيارات الفكر الغربي أن تؤمن
بما هو وراء المادية، لكن أيضا داخل السطح المادي
نفسه، وأنا أسميها (الإله الخفي) في الخطاب الغربي.
وفي الواقع أنني أخذت المصطلح ليس من لوسيان جولدمان
ولكن من ناقد أدبي هو كلاك بروكس، كان قد كتب كتابا
يحاول فيه أن يرى مفهوم الإله كامنا في كتابات بعض
العلمانيين، وأنا فعلت نفس الشيء مع محمود درويش
عندما يقول (أنا أحمد العربي فليأت الحصار) و(أنا
أحاصركم)، فإذا كان الحصار مادي فمن أين تأتي مقدرة
أحمد العربي أن يحاصرهم؟.. إذن يحاصرهم بالإرادة
والإيمان وهي عناصر غير مادية وبالتالي خطاب المدرسة
النقدية هو خطاب مأساوي في النهاية لا يجد الحل..
إنما خطابي متفائل ويجد الحل وهو أن نتجاوز السطح
المادي ونبدأ ننظر للعالم باعتباره يضم منظومات
أخلاقية وإنسانية عامة موجودة داخل الإسلام وموجودة
أيضا في الفلسفات الإنسانية حتى لو كانت إلحادية
لذلك دائما أقول أنا مستعد للتعاون مع مفكر إنساني
ملحد يؤمن بالقيم الأخلاقية المطلقة، يؤمن بالمساواة
بين البشر، وطبعا أنا أرى أن إيمانه هذا ليس له أساس
فلسفي لكن يمكن أن نناقش هذا في المؤتمرات المتخصصة،
أما عندما نؤسس عقدا اجتماعيا فأنا على أتم
الاستعداد للدخول معه في علاقة طالما أنه مستعد أن
يؤسس مجتمعا مبنيا على قيم أخلاقية أنا أرى أنها
إنسانية إسلامية وهو يرى أنها إنسانية وحسب، وهذا لا
يضرني كثيرا ونتناقش معه بخصوص هذه الاختلافات في
المؤتمرات المتخصصة.
حركة التجديد
* منذ نهاية السبعينيات من القرن
الماضي بدأت حركات فكرية في العالم العربي للتخلص من
قيد التبعية للفكر الغربي وكنت - مع مفكرين عرب
آخرين - قد بدأتم هذه الحركة في ظل مناخ كان ينتقد
الفكر الغربي سياسيا لكن بنفس مفاهيمه، ثم مع نهاية
السبعينيات بدأت في صياغة أول نقد على المستوى
المعرفي للنموذج الفكري الغربي الحديث.. هل تعتقد أن
هذه الحركة الفكرية قد انتشرت في المناخ الثقافي
العام أم أن هذا التيار لا يزال محدودا في إطار
النخبة؟
- أعتقد أن هذا الفكر الذي ينبع من
مقولاتنا التحليلية ويؤمن بالاجتهاد ويؤمن أيضا
بالانفتاح.. هذا التيار قد ترسخ وأصبح هو التيار
الأساسي الآن في العالم العربي وربما في العالم
الإسلامي، لا تزال توجد جيوب من المدافعين عن
الحداثة الغربية، عن الليبرالية، وهؤلاء في معظمهم
تجدهم تابعين للحكومات ويرون انه لا مخرج لنا إلا أن
نلحق بالغرب، وهذا كان شعار ما يسمى بمشروع النهضة،
وهناك التيار الذي يرى أننا لا نتعامل مع العالم
الحديث وهؤلاء أيضا دخلوا في تناقض بعد أن دخلت
الحركات الإسلامية إلى معترك السياسة.. لا تنسى أن
الممارسة هي التي تنضج الإنسان وتطوره وأعتقد أن هذا
ما حدث لجماعتي حماس والإخوان المسلمين، فمن خلال
الممارسة السياسية بدؤوا يدركون المشكلات الاقتصادية
والسياسية والتوازنات.. وكل هذه الأمور لم تكن
مطروحة على مستوى الأيديولوجيا، وهناك دراسة حديثة
عن خطاب الإخوان المسلمين تشير إلى أن التغيير يتم
أولا على مستوى الممارسة وأحيانا لا يدخل النظرية
إلا بعد فترة زمنية وهي عملية تدريجية خاصة أن
الإخوان المسلمين ليسوا حزبا سياسيا معترفا به
فبالتالي هناك مظلة كبرى تغطي عشرات الاتجاهات، لكن
أعتقد أن التيار الأساسي في الإخوان المسلمين نتيجة
لدخوله معترك السياسة بدأ يحدث تغييرا عميقا في
خطابه ولمسنا ذلك في خطابهم أثناء الانتخابات
الأخيرة ومن الأمثلة على ذلك آخر خطاب للمرشد العام
للإخوان حيث تحدث عن سيطرة رأس المال على الحكومة
وهذا شيء جديد تماما وعلق أحد الجالسين في الندوة
التي شهدت هذا الخطاب قائلا هل يعني ذلك أن الإخوان
المسلمين سرقوا مقولات الحداثة؟.. في نهاية الأمر
يوجد واقع يتم تحديد الأولويات على أساسه وهم
ينطلقون في نهاية الأمر من مرجعية إسلامية بمعني لا
ينادون بشيء يتنافي مع الإسلام.
* ولكن حركة التجديد لا تزال
محدودة.
- محدودة بوجود الأمن ولكن الحركة
تسير الآن، الوضع الآن مختلف فمن الضروري هنا أن ترى
أن فكرة التراثيين الجدد ومشروع الحداثة لم يبدأ إلا
في أوائل الثمانينيات وبدأ لما أدركنا الحداثة
الغربية. وحينما كانت الحداثة الغربية ناجحة حلت
المشكلة، وكنا نرى أن القضية أن نستوردها بحلوها
ومرها كما يقولون ولكن عندما بدأت المشاكل تظهر
وبشكل عنيف بدأنا في إعادة النظر، وأنا بالمناسبة
أرى أنه لا يمكن كتابة تاريخ الحداثة أو تاريخ
العلمانية إلا بعد السبعينيات، والعلمانية كانت حتى
منتصف الستينيات تنصرف فقط إلى الخير العام أما
الخير الخاص فكانت تحكمه قيم إما مسيحية أو قيم
مسيحية تمت علمنتها وبالتالي خلق هذا توازنا عظيما
في المجتمعات الغربية، ولكن بعد ذلك بدأت المشكلات
كالمخدرات والإيدز والتلوث، وبدأ صعود المحافظين
الجدد، كل المشاكل ظهرت بعد ذلك وهي كانت موجودة لكن
كان يوجد انضباط، وبعد ظهور المشاكل وجدوا أن
المنظومة لها ثمن مرتفع والثمن أعلى من العائد، وكان
علينا أن نبدأ بأنفسنا والعودة للتراث لنولد منه
حداثة إنسانية إسلامية في مقابل الحداثة المادية
الغربية، فالحداثة في الغرب لا تؤمن بالعدل وإنما
تؤمن بالقوة، أما الحداثة الإسلامية فتؤمن
بالعدل.
بناء الحداثة الإسلامية
* مشروع الحداثة الإسلامية القائم على
العدل الذي ذكرته الآن ما هي مكوناته الفعلية على
المستوى السياسي والاجتماعي؟
- انطلق أولا من تعريف الحداثة
باستخدام العقل والعلم والتكنولوجيا وهو التعريف
السائد، أي استخدام هذه الأمور في تسيير المجتمع
وشؤون الإنسان بدون العودة إلى ما وراء الطبيعة
والبعد المعرفي الذي يحدد كينونة الإنسان، فأنا أرى
أن الحداثة الغربية هي التزام العلم والعقل
والتكنولوجيا المنفصلين عن القيمة، وهي تفصل الحداثة
عن الإنسان، مثل هذه الحداثة في نهاية الأمر تحول
العالم إلى مادة استعمالية تتساوى فيها الأمور
وعندما تتساوى الأمور تصبح كل الأمور نسبية..
فالمشكلة في النسبية هي عكس ما يتصوره الجميع فحينما
نقول أن كل الأمور نسبية هذا يعني الانفتاح وتقبل
الآخر. أبدا النسبية تعني غياب المعايير ومع غياب
المعايير يظهر معيار وحيد وهو القوة، والقوة هي التي
تحسم في الأساس الخلافات، والخلافات جزء من الطبيعة
الإنسانية وجزء من الوجود الإنساني، ويجب أن تحسم في
إطار إنساني أي تحسم بقيم إنسانية، لكن في حالة
النسبية تصبح مثل هذه القيم غير موجودة أو غير معترف
بها أو معترف بها من طرف وغير معترف بها من طرف آخر؛
لأن كل الأمور نسبية فتصبح القوة هي آلية وحيدة لحسم
الخلافات، كما أصبحت مؤشرات التحديث في الحداثة
الغربية مادية.. معدلات الاستهلاك.. عدد التليفونات
المحمولة.. إلخ. أي لم يعد هناك مؤشر إنساني. مثلا
الحفاظ على البيئة شكل من أشكال الحداثة ولو كان
الحفاظ على البيئة مؤشرا لكانت بعض المجتمعات خارج
الغرب أكثر حداثة، فهل السماء الزرقاء وعدم التلوث
مؤشر على الحداثة أم لا؟ أدعو إلى حداثة الهدف منها
هو العدل، والهدف ليس التقدم إلى ما لا نهاية وإنما
التوازن مع الذات ومع البيئة، ومؤشرات هذه الحداثة
مختلفة فتأخذ في الاعتبار بعض المؤشرات مثل التقدم
في مجال الأدوية مسألة مهمة نصيب الفرد في السكن..
كل هذه الأمور مهمة، لكن هناك أمورا أخرى مثل
الاستقرار الأسري والعدل الاجتماعي، الحداثة الغربية
لم تعرف التقدم نحو ماذا، النمو للنمو، وأعتقد أن
هذا الطريق للحفاظ على الكرة الأرضية ولو استمر
العالم على نفس معدلات الاستهلاك الحالية سنحتاج إلى
موارد خمس كرات أرضية وعلى ذلك فإن المحافظين الجدد
في الولايات المتحدة وللحفاظ على معدلات الاستهلاك
الأمريكية عليهم أن يعربدوا في الأرض للاستيلاء على
المصادر الطبيعية؛ لأن الإنسان الأمريكي غير قادر
على تخفيض معدلاته الاستهلاكية.
الواقع أن مهمة التخلص من التبعية
للفكر الغربي قطع فيها شوط كبير لكن مسألة البناء
على الأرض على مستوى الفكر السياسي والاقتصادي
والإداري إلى آخره هذه العملية تحتاج إلى تركيز أكبر
من قبل مجددي الفكر الإسلامي.
* لكن المشكلة الآن أن الشارع أصبح
محافظا واكثر جمودا من النخبة وهذا نلاحظه عند بعض
رجال الدين عندما يقدمون بعض الفتاوى التجديدية التي
تراعي ظروف الواقع والمصلحة العامة، فنجد أن الشارع
العادي هو الذي يبادر بالهجوم عليهم ويطالب بالتمسك
بالفتاوى الأكثر تشددا.. إذن هناك تطور على مستوى
الفكر لكن يبدو أحيانا أن تيار التجديد لم يحقق شيئا
يذكر على مستوى الشارع؟
- أتفق معك تماما، وهذا ميل طبيعي لدى
النفس الإنسانية، دع ما يريبك إلى ما لا يريبك، فأنا
أرى أن الخطاب الإسلامي ينقسم إلى ثلاث مستويات:
الأول اسميه الإسلام الشعبوي وهو إسلام الجماهير،
وهذا يعبر عن نفسه في شكلين متناقضين وما يجمع
بينهما عدم الفهم، فهناك الشكل الخيري يعني مساعدة
بعضهم البعض لكن الجانب الآخر هو الإرهاب واللجوء
للسلاح دون فهم. المستوى الثاني هو الإسلام السياسي
وهو جماعات إسلامية سياسية ترى أنه يمكن تحقيق
أهدافها من خلال القنوات السياسية الشرعية ومع الأسف
حكومات كثيرة ترفض لأن ذلك يعني قوة سياسية جديدة
تظهر تتسم بمعايير أخلاقية وهذا ما حدث لحماس. أما
المستوى الثالث فهو الاجتهادات الفكرية والمحاولات
في الفلسفة والفكر بأسلوب إسلامي، ونجد ذلك في
العديد من مجالات الفكر والتطبيق.
تصالح وتصادم الحضارات
* هذه الصورة المركبة لمستويات الفكر
الإسلامي المعاصر تبدو غير مدركة لدى الغرب وهذا
يدخلنا إلى موضوع صراع الحضارات، ونعلم أن لك رؤية
في هذا الموضوع، فما هو تصورك لظاهرة تصاعد الصراع
الحضاري خلال الأعوام الأخيرة؟
- رؤية الحداثة الغربية الاستهلاكية
تؤدي للصراع لأنه إذا كان 20 % من سكان العالم
الغربي يستهلكون 80 % من المصادر الطبيعية فلا بد
إذن بل يجب أن ننظر للصراع في هذا الإطار، وطالما
قدم الإسلام نموذجا غير مقاوم للغرب لم يكن هناك
صراع بل هناك التحالفات معه، وحينما أصبح الإسلام
مقاوماً اختلفت الصورة والغرب لا يعادي الإسلام
وإنما يعادي الإسلام المقاوم ولذلك حينما جاءت لجنة
الحريات الدينية من الكونجرس أوصت بإشاعة الفكر
الصوفي ودعم الحركات الصوفية.. وأعرف أن بعض
الحكومات العربية تكفل الحركات الصوفية؛ لأن الحركات
الصوفية تجعل الإنسان منغلقا على نفسه وإن كنت أرى
أن هذا سلاح ذو حدين لأنها من الممكن أن ترفع لديه
النزعة الجهادية ولدينا أمثلة عديدة في التاريخ
للحركات الصوفية التي قاومت الاستعمار.
* في الغرب أيضا هناك عودة قوية للدين
وتصاعد لدور الدين في المجتمع وفي السياسة وهناك
دعوة للمسيحية الأصولية.. ما هو تفسيرك؟
- أولا أنا أعتبر ظهور الأصوليات
والصحوة الدينية في الغرب رد فعل للحداثة
والعلمانية؛ لأن العلمانية لم تجب عن الأسئلة الكبرى
لماذا نحن هنا، مسألة الحب والزواج والأولاد. وهناك
أحاسيس لا يشعر بها الغرب وبسبب نزع القداسة عن
العالم بأسره أصبح من الصعب عليهم أن يدركوا أن
الحداثة لن تزودهم بأية إجابة عن الأسئلة الكبرى
الحقيقية ومن ثم عادوا أيضا إلى ما يعرفون وهو
المسيحية، وما حدث أنهم عادوا إلى مسيحيتهم التي تم
علمنتها إلى حد ما، الأصولية تطالب بالعودة للأخلاق
وهذا جيد، ولكن يتم توظيف العودة بشكل سياسي، ومن
الأمثلة على ذلك توظيف الإطار الأسطوري الصهيوني
وعودة اليهود والخلاص وأعتقد أن هذه المسألة لن
تستمر طويلا.
* شاهدت فيلما يناقش الصدام الثقافي
في اليابان المعاصرة، وتضمن نوعا من الإساءة البالغة
لبوذا والتقاليد البوذية على لسان إحدى الشخصيات
الدرامية فيه ولم تحدث ردود أفعال حادة من قبل
المتدينين رغم ما هو معروف من شدة التدين لدى
اليابانيين.. هل نحن حساسون بشكل مبالغ فيه تجاه أي
شكل من أشكال الإساءة الدينية؟
- أعتقد أن جزءا كبيرا من الغضب
العربي كان تعبيرا عن الاحتجاج، لكن أعتقد أيضا أن
الحكومات شجعت ذلك لتحويل الغضب الجماهيري إلى
الغرب.
* لكن في الغرب هناك تركيز سياسي
وثقافي على الإسلام وربما تكون هناك استعدادات
للمواجهة مع الصين ولكن لا يوجد تركيز على صورة
الصراع الفكري أو الديني مع الصين أو غيرها.. لماذا
الإسلام بالذات؟
- لأن الجانب الرمزي في الصين تآكل،
فالصين دخلت الحداثة الغربية المادية وجعلت من
الاستهلاك أهم المؤشرات وبالتالي الصين هي بالنسبة
للغرب عدو اقتصادي أما الإسلام فهو عدو معرفي وحضاري
حقيقي لديه مشروعه الحضارى ولا يزال عندنا الإيمان
بالله الواحد الأحد، وهو ما يجعلنا نرفض المساومة
وندافع عن الأرض وعن الكرامة وعن القيم التي لا يمكن
إدخالها داخل المنظومة المادية.
نهاية التاريخ
* الكثيرون لا يعرفون أن لك كتابا
بعنوان (نهاية التاريخ) صدر في وقت مبكر عام 1972
قبل أطروحة فوكوياما حول نهاية التاريخ وتوضح فيه
مفهومك لنهاية التاريخ وأعتقد أنه متناقض مع
فوكوياما...
- في الواقع قد جرى حوار بيني وبين
فوكوياما على صفحات الأهرام ويكلي وأندهش من أطروحة
نهاية التاريخ. الرؤية الهيجيله ترى أن الإله
المفارق يحل في مخلوقاته ويتوحد بها وحينما يتوحد
بها يصبح هناك جوهر واحد في العالم، هذا الجوهر
يسميه البعض الله ويسميه آخرون المادة وأرى انه لا
فارق بين أن نقول إنه لا موجود إلا هو وأن نقول لا
موجود إلا هي أي المادة نفس الشيء اختلاف التسميات؛
لأن هناك جوهرا واحدا هو الله لذلك أرى أن الفارق
بين وحدة الوجود الروحية ووحدة الوجود المادية فارق
في التسمية وأن موقف الفلاسفة الغربيين الماديين لا
بد أن ينتهي إلى ما وراء الطبيعة أي إلى الله وكثير
من الفقهاء لم يدركوا هذا.
وانطلاقاً من هذا وحيثما يكون هناك
جوهر واحد حينما يلتقي الفعل الطبيعي مع العقل
المطلق أي عندما يتوافر الاثنان يكون هناك نهاية
للتاريخ كما يقول هيجل ويرى هؤلاء أنه توجد لحظة لا
يوجد بعدها اى صراع وهذا ما حدث مع هيجل حينما أعلن
أن الدولة البروسية هي الكمال ونهاية التاريخ وكذلك
ترى الصهيونية أن عودة اليهود هي النهاية ورأى
فوكوياما أن التاريخ وصل إلى نهايته مع الليبرالية
وأنا كمسلم أرفض فكرة نهاية التاريخ.
* إذن كان لك بدايات اقتراب من الرؤية
الإسلامية في هذا الوقت المبكر ويعني هذا أنه يمكن
رصد تحولك الفكري منذ السبعينات وليس الثمانيات كما
يتصور الكثيرون من قرائك ومتابعي تجربتك
الفكرية..
- التحول بدأ في الواقع عام 63 وأعتقد
أنني متسق مع نفسي فعندما كنت أدخل تجربة لا يمكن
تفسيرها مادياً أضع رقعة على ثوبي الفكري إلا أنني
اكتشفت أن الثوب كله أصبح مليئا بالرقع، فكان يجب
البحث عن ثوب جديد يتفق مع تجربتي الإنسانية.
* أشرت إلى الدولة الصهيونية ولك
كتابات حول الظروف الموضوعية التي نشأت فيها الدولة
الصهيونية.. كيف تقرأ الحديث الدائر حاليا من أن
إسرائيل واقع ينبغى التعامل معه وكيف تقرأ مفهوم
السلام العادل وشروطه؟
- أولاً مفهوم السلام العادل يعني
القضاء على إسرائيل ليس بمعنى إبادة الإسرائيليين
وانما بمعنى ذوبان الكيان العنصري، وأنا أقسم كل
الجيوب الاستيطانية إلى قسمين: الأول نجح في إبادة
السكان الأصليين وقسم آخر يذوب فيه الكيان العنصرى،
ومن أمثلة القسم الأول أمريكا وأستراليا اما في
فلسطين فلم يتم إبادة السكان الأصليين فما الذي
يجعلني أرى إسرائيل تمثل استثناء للقاعدة حيث إنني
لا أؤمن بالوعد الإلهي وعلى من يريد أن يطرح رؤية
أخرى عليه أن يبين عوامل البقاء في تكوين إسرائيل
ويجعلها مختلفة أو استثناء عن القاعدة. وأرى أن
انسحاب إسرائيل على حدود 67 مستحيل عمليا لأنها تعود
دولة صغيرة والشعب الفلسطيني يتكاثر ولذلك أؤمن بأن
الانسحاب من نابلس يعني الانسحاب من تل أبيب.
* على الرغم من ذلك كان لك موقف مخالف
للتيار الشعبي العام من كتاب بروتوكولات حكماء صهيون
واعتبرته كتابا مزعوما بناء على تطبيق المنهجية
العلمية في تحليل النصوص وأعلنت بوضوح انه لا يجب
الاستناد إلى مثل هذا الكتاب المزعوم وأن هناك من
المظالم الكثيرة التي تمارسها الصهيونية ما يمكن أن
يعتمد عليه العرب والمسلمون في فضحها.
- اعتقد أن من يساندون البروتوكولات
يجب أن يقرؤوها مرة أخرى فهي وثيقة مضحكة وكتاب مضحك
فأولاً البروتوكولات مكتوبة باللغة الروسية ويهود
روسيا لم يكونوا يعرفون الروسية ومثلاً لو جهة عربية
قررت أن تكتب دراسة أو مشروع لغزو إسرائيل تكتبه
بالعبرية ام العربية، ولِم لم تكتب البروتوكولات
بالآرامية اللغة التي كان يعرفها الحاخامات في ذلك
الوقت؟ وتبدأ البرتوكولات بالقول: نحن اليهود من
الأشرار الذين يودون تحطيم العالم.. فهذه لغة
طفولية، كما يقولون مثلاً إنهم سينشرون الاباجية،
والإباحية تنتشر في العالم العربي بدونهم، وكلما
يظهر وزير فاسد يقولون إن والدته يهودية فهذا نموذج
تفسيري اختزالي شعبوي وتتسم هذه التفسيرات أنها تحول
الإنسان إلى مثقف انتقائي قادر على تفسير كل شيء.
* ماذا عن مشروعاتك الفكرية
الجديدة؟
- لدى الناشرين عدد من الكتب هي
(دراسات في الشعر والأدب والفكر) و(الصهيونية وخيوط
العنكبوت) يصدر منتصف ابريل و(دراسات إسلامية)
و(الناصرية والإسلام)، كما سيعرض قريبا فيلم تسجيلي
بعنوان (حوارات مع د. عبد الوهاب المسيري) أعدته
قناة الجزيرة.