|
|
عبد الله العروي ناقدا لـ فكر المهدي
بن بركة ....................... يحيى بن
الوليد |
في ذكري اختطاف المهدي بن
بركة: عبد الله العروي ناقدا لـ فكر المهدي بن بركة
يحيي بن الوليد
تتعدد مناحي عبد الله العروي في التعامل مع
الإنتاج الفكري العربي، أو بتوصيفه الأثير الإيديولوجية
العربية المعاصرة ، وكل ذلك في منظور تتجاور فيه المقاربة
القومية مع المقاربة العالمثالثية و المقاربة الكونية ،
ودون أي نوع من الانزياح عن طريق النقد الموضوعي الصارم
والجاد الذي دأب عليه علي مدار عمره الأكاديمي والثقافي...
وباعتباره ــ وفي المقام الأول ــ مؤرخا همه الأساس رصد
إخفاقات المثقف و تعثرات الدولة ما بعد الكولونيالية. وبما
أن ملاحظاته ، وبلغته، تنطبق أساسا علي المغرب الكبير
وبالخصوص علي المغرب الأقصي ، وأنه إذا ما عمم فـ لأن
الموضوع يقتضي ذلك التعميم ( العرب والفكر التاريخي ،
ص212)، لا يبدو غريبا أن يشدد علي المهدي بن بركة الذي
انخرط ــ وبالكلية والصرامة ــ في الإيديولوجية المغربية
المعاصرة ، بل وأن يكون هذا الأخير ضمن أسباب تأليف كتاب
الإيديولوجية العربية المعاصرة (1967) علي الرغم من
الإحالات المعدودة إليه. وإشارات العروي لهذا الأخير،
وبدءا من الإيديولوجية العربية المعاصرة إلي خواطر الصباح
(2002)، تنطوي علي أهمية بالغة، إضافة إلي أنها تندرج ضمن
نسق يختلف عن نسق الكتابات التوثيقية والصحافية التي اعتنت
ــ وبطريقتها المخصوصة ــ بموضوع المهدي بن بركة. ومن هذه
الناحية كثيرا ما يتم التشديد علي أهمية كتابات الصحافي
(المغربي) عبد اللطيف جبرو ومن قبل مفكرين اهتموا بالموضوع
نفسه أمثال محمد عابد الجابري ذاته والمهدي المنجرة
وسواهما. ولا يخفي أن كتاب العروي السالف كان له
تأثير قوي في الثقافة العربية المعاصرة علي الرغم من
ترجمته العربية التي لم تخل من مزالق يمكن أن نرد جانبا
منها إلي صعوبة التحليل المجرد الذي يستند إليه العروي في
تحليلاته . ومصدر تأثير الكتاب طريقته الصارمة في دراسة
إخفاق النخبة المفكرة في الفكر العربي عامة والمصري منه
خاصة. يقول عبد الله العروي في سياق الحديث عن ظروف تأليف
الإيديولوجية العربية المعاصرة : كنت أثناء اشتغالي بـ
شفاء السائل (لابن خلدون) أفكر في إخفاق رجل آخر، ذي
مؤهلات كبري وهو المهدي بن بركة، كان ألمع شخصية أنتجتها
الحركة الاستقلالية المغربية، حيوية وإخلاصا ونفاذ فكر،
ومع ذلك أخفق في جميع محاولاته لإعادة تنظيم الحزب وإعطاء
مضمون للاستقلال السياسي وتغيير مجري انزلاق المغرب في
طريق التبعية والركود. ثم من إخفاق إلي إخفاق آخر اضطر إلي
اللجوء إلي الخارج حيث تقلص نفوذه في الداخل، لم نكن نتوقع
آنذاك أن هجرته كانت في الواقع تدق ناقوس الوداع، تعلن أن
عهد التطلعات قد خلفه عهد دموي طويل يعرف فيه المغرب
إخفاقات متعددة أخري ــ لكننا كنا قد فهمنا علي الأقل أن
الشوط الأول بعد الاستقلال قد انتهي ولم يفز به أنصار
التقدم وأصحاب الملكات والمؤهلات ... ( العرب والفكر
التاريخي ، ص 54). فمن الجلي أن يتأطر تعامل عبد
الله العروي مع فكر المهدي بن بركة داخل معطي الإخفاق الذي
يلحقه بباقي المثقفين والزعماء العرب من التقدميين قبل
هزيمة حزيران (يونيو) عام 1967 التي ستكشف عن أزمة الوعي
التاريخي والإيديولوجي . وقبل أن نعرض لأسباب ومظاهر
الإخفاق لا بأس من الإشارة إلي مدخل آخر يفسر اهتمام
العروي بابن بركة، إن لم نقل بأنه هو الآخر يؤطر هذا
الاهتمام الذي يصعب رصده. ويفضي بنا هذا المدخل إلي
السياسة ، لكن بمعناها العام وليس الحزبي الأدواتي
الإجرائي الذي لا يفسح هوامش للمثقف في تمثلاته الأفقية
التي تنأي ــ في أحيان كثيرة ــ عن إكراهات التنظيم
العنقودية . ومن هذه الناحية فإن العروي يشدد علي أن لا
ينسلخ المثقف ــ ومن حيث هو ظاهرة حديثة ــ عن السياسة،
لكي لا يتركها مرتعا خالصا للفكر التقليدي ( العرب والفكر
التاريخي ، ص 53). ثم إن العروي بدوره مهووس بـ السياسي ،
لكن من غير أن يغرق في السياسة؛ إنه محلل من بعد كما قال
عبد السلام بنعبد العالي في سياق قراءة الجزء الثالث حجرة
في العنق (2005) من مذكرات خواطر الصباح ( جريدة الاتحاد
الاشتراكي/ الملحق الثقافي، الجمعة 11 آذار ـ مارس 2005).
غير أن السياسة، هنا، بغير معناها الملتبس بالجزئيات
والتكتيكات والمناوشات... إن العروي يشدد علي قرارات رجل
السياسة ذات التأثير علي مستوي توجيه التاريخ. وفي هذا
السياق أمكننا فهم كتابه اللاحق حول المغرب والحسن الثاني
ــ شهادة (2005)، الحسن الثاني الذي سعي إلي بناء الدولة
لكن دون أن يكون مستعدا لاقتسام السلطة مع أي حزب أو شخص.
وفي هذا السياق يمكن أن نفهم إشارات العروي إلي خصم الحسن
الثاني المهدي بن بركة جنبا إلي جنب جمال عبد الناصر وأحمد
بن بلة في إطار دراسته لـ إخفاق التجارب الثلاث في كتاب
العرب والفكر التاريخي . أجل لم تتح للمهدي أي فرصة... غير
أنه لا يمكن استبعاده عن المعادلة السياسية في المغرب،
لأنه لا مستقبل بدون المهدي كما قلنا في دراسة مطولة حول
خطاب المثقف ــ قراءة في فكر المهدي بن بركة التي نأمل أن
تظهر في أحد الأعداد القادمة لمجلة فكر ونقد (المغربية).
وثمة مدخل آخر لرصد العلاقة (الفكرية) بين عبد
العروي والمهدي بن بركة وتتمثل في استناد الأول ــ وتحت
تأثير أستاذه هيغل ـ إلي مفهوم الدولة ، وخصوصا من ناحية
دورها الحداثي المحتمل . والدولة ليست نظام حكم فقط، وإنما
هي ثقافة أيضا؛ ثقافة تضمن لها هيمنتها الأخري. ويتصور
البعض أن العروي انعطف إلي مفهوم/ مرحلة التفكير في الدولة
نتيجة خيبته في النخبة ودورها علي مستوي تحديث المجتمع
العربي . والظاهر أن مفهوم الدولة في مشروعه لا يمكن
التأريخ له بالكتاب الذي خصصه للموضوع ( مفهوم الدولة ،
1981)، فهو سابق علي هذا الكتاب بل وسابق علي الإيديولوجية
العربية المعاصرة . إنه وارد في دراساته التاريخية التي
افتتح بها مساره الفكري ولا أدل علي ذلك من كتابه الجذور
الاجتماعية والثقافية للحركة الوطنية بالمغرب (1977) الذي
تطرق فيه إلي فشل الدولة المخزنية علي مستوي التحديث ، وهو
ــ في النزْع الأخير إذا جازت عبارة المهدي بن بركة ــ فشل
عضوي لا إرادي . وقد وسع من المفهوم ذاته في كتاب
الإيديولوجية العربية المعاصرة الذي يعرض فيه لـ الدولة
القومية التي تلت الدولة المستعمَرة والتي فشلت ــ وبسبب
من التعثر ــ في الخروج من التبعية . ولأنه لم
يعد ممكنا العمل علي استمرار الوضع الذي كان سائدا في
الفترة الاستعمارية من جهة، ولأنه لم يعد ممكنا العمل علي
إعادة إنتاج أنقاض الفترة التي سبقت الاستعمار من جهة
ثانية، فإن السؤال الذي فرض نفسه بعد الاستقلال مباشرة:
علي أي أسس يمكن إنشاء الدولة الجديدة ؟ وهو ذات السؤال
الذي انخرط فيه المهدي بن بركة، لكن بطريقة لا تروق العروي
بالنظر إلي ما يشترطه من تكوين إيديولوجي وبالنظر إلي
الترسانة المفاهيمية التي يستند إليها في تدبر دلالات هذا
التكوين. ويمثل نص الاختيار الثوري (1966)، وقد
كان عنوانه من قبل النقد الذاتي (1962)، تتويجا للعلاقة
الصدامية ما بين المثقف والسلطة أو الحكم المطلق القائم
كما ينعته بن بركة علي مدار الكتاب، وهو ما أفضي إلي العنف
كأسلوب سياسي في نطاق الثورة كـ اختيار يتداخل فيه التكتيك
مع الاستراتيجية . غير أن هذا الاختيار لا يمكنه التحقق في
معزل عن التفكير في تهيئة الثوري . وفي هذا الإطار يمكن أن
نفهم تشديد المهدي بن بركة، وعلي مدار نص الاختيار ، علي
الإيديولوجيا : الإيديولوجيا التي لا بد منها كما يقول في
تنويع من تنويعاتها التي تفضي بنا إلي الوحدة الإيديولوجية
و التعميق الإيديولوجي و التحضير الإيديولوجي و التربية
الإيديولوجية ... هذا بالإضافة إلي التكوين الإيديولوجي
الذي يشترطه العروي. وكل هذه التنويعات من أجل ما ينعته
المهدي بن بركة بـ التنمية الصحيحة أو التمنية الوطنية
الشاملة . وكانت التنمية في مقدم التحديات التي جابهت
مثقفي بلدان العالم الثالث في السنوات الأولي من الاستقلال
الاسمي . وكما أن التنمية، هنا، في المنظور الذي لا يفارق
حلم المجتمع الاشتراكي بالمغرب الذي ظل يراود صاحب
الاختيار الثوري في سياق التفكير في الخروج من مأزق التخلف
أو ــ بتعبير العروي ــ التأخر التاريخي .
وبالنظر إلي الأسلوب المجرد الذي ينهجه العروي في تحليلاته
لا يبدو غريبا أن يستنكف عن الحديث عن العلاقة التي كانت
تصله بابن بركة في باريس والتي كانت ــ كما قيل ــ من بين
الأسباب التي كانت وراء فصل العروي من مهامه كمستشار ثقافي
في السفارة المغربية بباريس، وبالنظر إلي الأسلوب ذاته لا
يبدو غريبا أن يستنكف عن ذكر التنظيم المتمثل بـ الاتحاد
الوطني للقوات الشعبية الذي أنشأه المهدي بن بركة في نطاق
ما يعرف في تاريخ الأحزاب المغربية بـ انتفاضة 25 يناير
1959 . فالأهم، بالنسبة للعروي كما يبدو، هو
الفكر الذي كان يتحرك في دائرته الرجل، الفكر الذي كان
قرين الإيديولوجيا للخروج من التخلف علي مستوي الداخل
ولمواجهة الاستعمار الجديد علي مستوي الخارج (القارات
الثلاث). الإيديولوجيا التي شدد عليها العروي، بدوره،
وبفهمه الخاص، في سياق الحديث عن دور النخبة علي مستوي
الوصل بين الثقافة والتاريخ، وكل ذلك في منظور التاريخانية
القائمة علي البحث عن حلول علي أرض التاريخ ذاته موازاة مع
الإيمان بـ تقدمية هذا الأخير و فاعلية المثقف أو المثقفين
ضمن هذا الإطار. وفي هذا الصدد تبدو الماركسية ، بالنسبة
لـ مثقف العالم الثالث ، اختيارا لا يعلو عليه أي اختيار
آخر. وبالنظر إلي تكوين الغربي لا يبدو غريبا أن
يعانق المهدي بن بركة الماركسية، لكن بأي فهم وأدوات؟ يجيب
العروي، هنا، قائلا (ونستحضر نصه علي طوله لأهميته ولعدم
قابليته للاختزال): لوحظ عليه (أي المهدي)، في السنوات
1955 ــ 1960، أنه كان يستعمل نظريات، وموضوعات ماركسية
لتفسير وتبرير قراراته، ومواقفه السياسية (مثلا حول دور
الحزب المسيطر في البلاد النامية، حول ضرورة الاستيلاء علي
الحكم لإنعاش وتنظيم الحزب، حول ضرورة الانضباط والوعي،
حول ضبط مفهوم تضامن الشعوب النامية ضد الاستعمار، ومضمون
الاستعمار الجديد أو المقنع، إلخ). كان لجوؤه إلي
الماركسية من نوع خاص ــ يتوصل هو إلي النتيجة عن طريق
تحليل مسلسل ومنطقي، لكن في العرض يقدم النتيجة جاهزة
كأنها من بديهيات العلم العصري التي يجب أن تقبل بدون
مناقشة. فلا يعطي في العرض مع النتائج طرائق الاستنتاج ــ
وعندما كان يلاحظ عليه هذا الأسلوب الناقص، غير المكون في
الواقع لأطر (كوادر) الحركة كان يتجنب الموضوع أو يقول ان
الوقت لم يحن بعد (العرب والفكر التاريخي، ص55). ويضيف
العروي أن أغلبية الزعماء، في الوطن العربي، أو خارجه
كانوا يقفون الموقف نفسه من التكوين الإيديولوجي (ص56).
ويبقي المشكل، في جانب كبير منه، في العلم ــ الذي أشار
إليه العروي قبل قليل ــ وكما يفهمه مثقف العالم الثالث .
وكما لاحظ أنطونيو غرامشي ــ الذي كثيرا ما يستشهد به مثقف
العالم الثالث ــ فإن العلم نشاط سياسي إلي حد بعيد،؛ لكن
هذا لا يسمح باختزاله في السياسة ــ وإلا فإنه سيعجز عن
إنتاج حقائق ذات صلاحية شمولية (أسئلة علم الاجتماع، بيير
بورديو، ص 32). أجل ثمة مفهوم محدد يصل، في نظر
العروي، مثقف العالم الثالث بماركس هو مفهوم التأخر
التاريخي (العرب والفكر التاريخي، ص173)، مما يجعل اعتناق
الماركسية أبعد عن الدعاية . غير أن ذلك لا يحول دون القول
بأن الاهتمام بماركس لا يعدو أن يكون استغلالا تكتيكيا...
(ص171). فالمشكل يقع في صميم التكوين الإيديولوجي ، بل ثمة
تخلف من نوع آخر هو التخلف في مجال التكوين الإيديولوجي
كما ينعته العروي في حوار معه ( معهم حيث هم ، ص138).
ويفسر العروي، في موضع آخر، إخفاق المهدي بن
بركة بـ التيار الناصري الذي ارتبط به: المهدي كان غربي
الاتجاه، قلبا وقالبا، لدوافع شخصية واجتماعية وثقافية،
تعرف إلي المشرق في فترة متأخرة فلم يفهم تعقيداته ولا
انتفع به. وكان في ذلك حتفه. يمكن القول إنه كان، بكيفية
ما، ضحية التيار الناصري ( خواطر الصباح ، الجزء الأول،
ص142). جمال عبد الناصر الذي يعد أول رئيس مصري يحول مصر
إلي بلد عربي وعالمثالثي رئيس، بل ويحكم العالم العربي
بمعني ما كما يقول إدوار سعيد (تأملات في المنفي، ص 102).
هذا وان القضية الفلسطينية هي التي عربته كما يقول الجابري
في الجزء الثاني من الكتاب الذي كرسه له (ص 32). وفي ضوء
هذا المنظور لا يتواني العروي عن الحديث عما ينعته بـ
النقص الإيديولوجي الذي كان وراء فشل تجربة المهدي بن بركة
(إلي جانب تجربة عبد الناصر وأحمد بن بلة)، ودونما أي
اكتراث بأن الرجل كان مشدودا إلي العمل و الفعل . ثم إن
رجلا من هذا النوع، ورغم مؤهلاته التي لا ينكرها العروي
نفسه، لا يمكنه التفرغ لـ الطرح النظري أو الماركسية كنظام
فكري . وقد يظل قدر الماركسي، في العالم الثالث، كما يمكن
أن يستخلص من تحليل العروي، هو النتف المبسطة لا الأصول
النظرية ، وألا يمكن أن نرد علي نقد العروي، وفي حال
المهدي بن بركة نفسه، بقراءة أخري تحيل إلي مرجعية
مغايرة؟ ناقد وكاتب من المغرب
القدس العربي 20/10/2006
|
|
عودة | | |
| |
|