تركي علي الربيعو
في وقت يعود إلى مطلع عقد
الثمانينات من القرن المنصرم، راح المفكر المغاربي
عبد الله العروي الذي انتقل من نقد "الايديولوجيات
العربية
المعاصرة" إلى الدعوة إلى الأخذ
بالفكر التاريخي، يعمل على توضيح المفاهيم فأصدر
سلسلة من المفاهيم كان آخرها "مفهوم العقل 1996".
من وجهة نظر العروي، أن توضيح
المفاهيم هو الشرط اللازم لكل فهم، وفي هذا السياق
جاء كتابه "مفهوم الدولة" والذي راح يعيب فيه على
المفكرين العرب المأخوذين ب "هيصة" الشعارات،
اهمالهم لنظرية الدولة، وهذا ما يجعلهم في الواقع
أعجز من أسلافهم من المجتهدين ممن جعلوا الغاية من
تنظيرهم بناء الدولة. لم يكتف العروي بذلك، بل راح
يؤكد أن بناء الدولة الحديثة يجب أن يسبق كل أشكال
البناء الأخرى، من هنا مأخذه على المثقفين العرب
الفرحين بانتقائيتهم، ولاتاريخيتهم، رفعهم للكثير
من الشعارات الطوباوية، وأولها شعار "الحرية
والديمقراطية"، فهذه كلمة حق ولكن يراد بها باطل،
فلا حرية خارج الدولة. صحيح أن التفكير في الحرية
هو بالأساس تفكير في الدولة والمجتمع، ولكن الحرية
خارج الدولة هي طوبى مخادعة - والتعبير له- من هنا
مصدر تساؤله: كيف الحرية في الدولة والدولة
بالحرية؟
كان العروي قد حذر من أن اضفاء
الأخلاق على الدولة الاستبدادية العربية غبن كبير.
ولكن هذا التحذير لم ينفع مع مثقفي السلطان
والسلطة، فراح البعض منهم يضفي كل بركاته على دولة
الاستبداد وذلك انطلاقاً من أن الحرية خارج الدولة
هي طوبى مخادعة، بهذا أضفيت كل بركات المثقفين على
الاستبداد، وراح بعض المثقفين العرب ممن وقعوا في
شراك دولة شرق المتوسط على حد تعبير عبد الرحمن
منيف، يبرر كل تصرفات دولة الإكراه العربية مهما
كانت الآلام التي ترافقها، لا بل إن الشطط وصل
ببعضهم إلى رسم خطاطة تطورية لتاريخ الدولة
العربية، من دولة الاكراه إلى دولة القانون
والمؤسسات، شرط أن لا نتجاوز في وضعنا الحالي دولة
الاكراه لوجود العدو الخارجي ممثلاً بالكيان
الصهيوني، والأهم من ذلك تبرير دولة الاكراه على
أنها عتبة ضرورية في تاريخ التطور ومرحلة لا بد
منها لتأديب الرعاع من العرب الذين لم يتأقلموا في
العيش مع دولة الراعي وشركاه.
كانت دولة ما بعد الاستقلال
العربية قد عجزت عن قيادة البلاد والعباد، لنقل
بحسب المفكر العربي محمد جابر الأنصاري قد خانت
العباد وسرقت البلاد، ووصلت إلى مأزقها التاريخي،
وفي هذا السياق، عرف الواقع العربي أو الساحة
العربية وجهتي نظر، الأولى تقول بتبرير دولة
الاكراه وأن الديمقراطية لا تزيد عن كونها ترف
مثقفين، أما وجهة النظر الأخرى، فتقول
بالديمقراطية أولاً وآخراً، وهذا كان يعني اعطاء
الأولوية للديمقراطية على الدولة، وبالتالي الركض
وراء طوبى ديمقراطية مخادعة تتأسس على حساب
الدولة.
وهذا ما يفسر "هيصة" الديمقراطية
على حد تعبير الفرنسي "آلان منك"، التي لا تزال
سائدة في الواقع العربي.
في إطار هذه "الهيصة" التي جعلت
من الديمقراطية مفتاحاً سحرياً لجميع الأبواب
المقفلة، مثلها مثل الكثير من الشعارات التي
سبقتها في الوحدة والحرية والاشتراكية، كثر القول
السحري في الديمقراطية الذي جعل منها مطلباً لا بد
منه، حتى ولو جاءت على أجنحة القاذفات العملاقة.
فالطلب الشديد على الديمقراطية، هو الذي دفع
بالكثير من المثقفين العرب إلى الوقوع في أسر
الديمقراطية الأمريكية التي كثر مبشروها من كل حدب
وصوب، مع أنها لا تزيد عن كونها -كما يقول تشومسكي
- فقاعة صابون.
في إطار دعوته إلى الإصلاح من
الداخل، قام الأنصاري، في أواسط عقد التسعينات من
القرن المنصرم، في كتابه "تكوين العرب السياسي
ومغزى الدولة القطرية- 1994" باستعادة التساؤل
الأساسي الذي طرحه عبدالله العروي: كيف الحرية في
الدولة وكيف الدولة بالحرية؟ ليأخذ صيغة الشكل
التالي: كيف الحرية في شبه الدولة العربية، وكيف
شبه الدولة مع الحرية؟ من هنا مصدر تساؤله الذي لم
يلتفت إليه ممن أصيبوا بهوى القول في الديمقراطية:
هل يمكن بناء ديمقراطية راسخة قبل ترسيخ دولة
"مكتملة النمو"؟ وهذا يعني أن الديمقراطية
المطلوبة في غياب الدولة هي من بنات أوهام المثقف
ومن بنات أوهام الامبراطورية الأمريكية التي قامت
بتقويض الدولة كما جرى في العراق، على أمل بناء
فقاعة الصابون من جديد. من هنا مصدر احتجاج
الأنصاري، فكل تقويض لشبه الدولة العربية هو إيذان
ببدء الفوضى والموت المجاني. والسبب أن السلطة
العربية على علاتها هي حاضنة الدولة، وبالتالي فإن
كل تفكير في الحرية هو تفكير في الدولة، بمعنى
إصلاحها لا تقويضها كما جرى في الحالة العراقية
التي طبل لها الكثيرون.
ان الحالة العراقية التي انتهت
بتدمير الدولة على يد قوى الاحتلال، تصلح لأن تكون
أنموذجا يهتدي به الرافعون لشعار الديمقراطية
أولاً، كما يصلح لأن يكون دافعاً لدعاة دولة
الاكراه للخروج من قوقعتهم والبدء بإصلاحات حقيقية
هدفها بناء الدولة، وبالتالي دفع الاستبداد
والاحتلال معاً؟
"الخليج"