فضاء الدار البيضاء في رواية (اليتيم)
لعبد الله العروي - هل أحاطت الرواية المغربية بتفاصيل المكان - صدوق نور
الدين
2003/12/16
فضاء الدار
البيضاء في رواية (اليتيم) لعبد الله العروي - هل أحاطت الرواية
المغربية بتفاصيل المكان - صدوق نور الدين إن خلق تصور عن الفضاء
الروائي، وتمثل المبدع له (حالة الدار البيضاء) يجدر أن يتأسس وفق
التمييز بين التالي: ـ الفضاء. ـ المكان. ـ المجال. لعل
أهم خاصة تميز الفضاء شساعته. فهو يحتوي المكان والمجال، ويفرض الإلمام
به إحاطة تطول الرمزي متجسدا في التاريخي، الثقافي، الموروث من عادات
وتقاليد، ومن داخل الفضاء يتأتي الحديث عن الأمكنة.إن فضاء المدن
المغربية القديمة ليس سوي خاصاتها المشتركة فيما بينها. وأما المكان
فحيزه ضيق مهما اتسع. وبالإمكان الإجهاز عليه، بوصف ما يحويه من أشياء
ومحتويات قديمة قدم المكان نفسه، أ وجديدة جدة المكان. أتصور غرفة داخل
منزل قديم، وأتمثل شقة في عمارة حديثة، إنه تباين القديم والحديث.علي
أن المكان له سمته، فه ومغلق علي الخارج: غرفة، بيت، مكتب خاص. أ
مفتوح علي تعدد في العلاقات: مقهي، إدارة، مكتب عام.لذلك فالمكان يندمج
في الفضاء دون أن يكون اللاحق مكانا. ـ كل مجال يتحدد بالأرض،
بالمساحة والموقع، فكلما تعلق الأمر بالمجال تم الحديث عمن يشغله، عن
هويته، مدة الإقامة فيه، وهل يحوز قانونا للتصرف فيه.إن المجال كامن في
المكان والفضاء، إلا أن المكان أوسع. لكن كيف يتمثل الفضاء
روائيا؟ أسوق في هذا المقام شاهدين: الأول يتعلق بحلول كولن ولسن
دمشق، حيث لما سئل عن تأثر كتاب مبدعين به قال بأنه قرأ لكاتب عربي نصا
شعر من خلاله بمدي التأثر حتي أن الفضاء المتحدث عنه لم يكن سوريا
وإنما لندن. تطرح هذه الواقعة التمثل الدال علي (غربة الفضاء). ذلك
أم إنجاز فعل الإبداع يتحقق من مقروء وليس من معيش. فالمبدع يتخيل خارج
ما يربطه بهويته، وبعيدا عما يحقق لنصه صفة:النص الإبداعي.لذلك فأساس
التمثل الأول خبرة دقائق الفضاء، وبالتالي الإحساس بالعنصر الرابط بين
فعل الكتابة وما يعبر عنه هذا الفعل. وثمة تكمن خصوصية كتابة إبداعية
عربية. أما الثاني فمقتطف عن رواية (اليتيم)، وهي الرواية الثانية
عبد الله العروي. وقد ورد في سياق حوار جمع بين شخصيتي:مارية
وإدريس: (..أليس من الغريب أن يكون رائد الأدب العربي
المعاصر أعمي، وأن يكون أحد كبار أدباء العصر الكلاسيكي أيضا
أعمي؟ ـ قد تكون صدفة. ـ وقد تكون إشار إلي حقيقة دائمة، وهي أن
الأديب العربي غير مطالب بالإطلاع علي العالم الخارجي، حسبه
الانغماس في اللغة. ـ ما ه والبديل؟ ـ الانغماس في الطبيعة). (ص
/119. الرواية) يعكس المقتطف تصورا للكتابة الروائية العربية، وه
والتصور الذي يتأسس علي الانفتاح بدل الانغلاق. الانفتاح علي الخارج،
الطبيعي، بما يتفاعل فيه من أحداث ووقائع بدل الارتهان إلي انغلاق ذهني
لا يعمل إلا علي إنتاج اللغة والفكرة/الأفكار. فالعمي المتحدث عنه
يتعلق بإقصاء الفضاء. والواقع أن تمثل الأخير يستلزم ثقافة تجمع اليومي
إلي التقليدي فالتاريخي الفكري والمعماري وإلا فما قيمة رواية يؤلفها
كاتب مغربي وليس من خاصات مغربية فيها إلا الاسم العلم المحمول من لدن
شخصياتها. ماذا ل وأبدلنا الأسماء بأخري أجنبية؟ ليبقي الفضاء المتحرك
فيه: البيت، المقهي والمكتبة والثانوية والجامعة؟ علي أن ثقافة الفضاء
إلا في الوعي التام بمكونات الفعل الروائي. فالرواية لا ينتجها الفضاء
وحده، وإنما العلاقة القائمة بين مكونات الكتابة الروائية. إني
أعتبر تمثل الفضاء: 1 ــ إكسابه هوية تحدده تاريخيا واجتماعيا
وفكريا ورمزيا. 2 ــ ولن يتأتي هذا في غياب ثقافة جامعة، ومعايشة
لتفاصيل الحياة ودقائقها. في ضوء هذا كيف أفهم الفضاء؟ مكون
الوصف أي تفكير في الفضاء يجدر أن يترسخ بالانطلاق من مكون الوصف.
الأخير الذي يدلنا في سياق العملية السردية علي أن ما يتحدث عنه بالذات
فضاء. وحتي تتحقق عملية استجلائه يتم ذلك برصد الأشياء الموجودة فيه.
والقول بالشيء، معناه من يشغله، ويوظفه أي الإنســان (شخصيات النص
الروائي). لتصبح العلاقة جامعة بين الفضاء، الشيء والإنسان، علما بقيمة
الدلالات التي تحيل عليها الأشياء داخل فضاء تتعدد أمكنته. إن وصف
الفضاء لا يخل ومنه أي نص إبداعي، علي أنه في الصيغة الحكائية قد يمتزج
والعملية السردية، فيضيء نفسية الشخصيات، أ ويعير الاهتمام لدقائق
تتفرد بها الأمكنة بهدف استكمال صورة الحدث أ والفكرة المشتغل عليها.
وقد يتوقف منطق المضي بالحدث، ليفسح لنوع من الحياد ه ووقفة للصورة
الفنية الموصوفة. والأصل أن الوقفة امتداد بالسرد علي مستوي بياض
الصفحة. علي أن الفضاء الموصوف يتراوح بين إيهامين: الإيهام
بالواقعي فيما المتخيل ه وما يقول معناه إذا ما أشرنا لكون الرؤية
الإبداعية تطل ـ وعلي الدوام ـ خاصة لا يشارك فيها الكل إلا بعد تمتين
جدار أفق الانتظار. فالفضاء يعرفه الكل ويتعرف إليه/عليه الجميع. ولكن
ليس بإمكان هذا الكل والجميع إنتاج المعني الواحد عنه. مثال الدار
البيضاء في (اليتيم)، (بيضة الديك)، وفي (كازبلانكا). والإيهام
بالمتخيل لإنتاج معناه نح وما نري في (عمورية / عالم بلا خرائط) وفي
(أزمور/الغربة) التي تتحول إلي (الصديقية) في اليتيم للمرجعية
الصوفية. وقد يغد والفضاء في علاقته ببقية المكونات، الموضوع الأساس
المشتغل عليه: ألم تكن القاهرة هاجس الكتابة الروائية المحفوظية؟
والدار البيضاء منطلق الكتابة الروائية لدي محمد زفزاف؟ إذن كيف
صاغت الرواية المغربية تمثل فضاء الدارالبيضاء؟ لم يتم اختيار
(اليتيم) لعبد الله العروي اعتباطا، وإنما تولد الاختيار عن: أ ــ
التمثل الحق لفضاء الدار البيضاء. ب ــ التأسيس لهذا التمثل
بالاستناد إلي خلفيات فكرية تاريخية سياسية مرتبطة بالفضاء ذاته. ج
ــ للصلة الرابطة بين إدريس فاعل الرباعية وهذا الفضاء. إن رواية
(اليتيم) تستند في بنائها إلي فصول حاملة لعناوين عبارة عن فضاءات:
البيضاء، الصديقية، مراكش، والبيضاء. للت ونلاحظ بأن البناء مغلق: من
البيضاء وإلي البيضاء علي أن الفضاء الثاني يخلق التباسا بالنسبة
للتلقي.إنه الإحالة علي موقع نشأة إدريس: أزمور. وه والوقع الذي طالعنا
في (الغربة)، (الفريق)، و(أوراق). أبعد من هذا وفضاء ولادة المؤلف.
الانتقال بين الفضاءات إحالة علي موضوعة السفر: بين فضاء وفضاء، وداخل
الفضاء الواحد.ثم ه والسفر في فضاء الذات المغتربة بالبيضاء، علما بأن
شخصية مارية الغائبة / الحاضرة، تفرض قوتها داخل البناء. ثم إنه السفر
بين الحديث والتقليدي. اعتماد الفضاءات عناوين للرواية، مسا وللصيغة
التي تقرن الفصول بأسماء الأبطال، إلا أن العروي ومن خلال هذا الاعتماد
جنح إلي بسط مفهومه للفضاء، ولكيفية تمثله، علما ـ فيما أري ـ بأن
البيضاء التي توصف في اليتيم، ويتحقق تخيلها، هي بيضاء أواخر الستينات
وببداية السبعينات. إنها بيضاء تكاد تدخل إلي متحف التاريخ، اللهم من
المحافظة علي أسماء أماكن وشوارع لا أحد يعرف مصائرها. الميدان
المفتوح البيضاء في اليتيم هي الميدان المفتوح علي الهوية الذاتية
الحقة.لذلك قورن الميدانبــ (المراح). والمقارنة ناشئة عن خلفية
تتمظهر في معمار المدن التقليدية القديمة. فالميدان. والاتساع فيما
غيابه يعني الضيق. وبذلك ارتكز المفهوم علي قاعدة الاتساع/ الضيق.
(الميادين في البيضاء قليلة أ وقل منعدمة.لهذا ساكن البيضاء غير مرتبط
بمدينته. الميدان عالم مقفول مثل مراح الدار. والبيضاء مدينة مفتوحة
علي المستقبل غير المتناهي) (ص / 126) الرواية. ما يتولد عن غياب
الميدان غربة الذات، الذات كوجود فاعل منتج.ذلك أن المعني الذي تبحث
عنه لا يكتمل ويكمل في الفضاء الذي توجد فيه، وإنما في البعد عنه.إنها
مشدودة لغير ما تهواه وتعشقه ويفتنها. لذلك فالمقيم بالبيضاء (علي
قلق). (البيضاء مدينة بلا قلب، لأن قلوب سكانها تتعلق
بميادين غير موجودة فيها.يقيم المرء في البيضاء، فيها يعمل ومنها
يثري ولا يقول أنا بيضاوي، فتبكي البيضاء حظها التعس)
(ص/124).الرواية. إن ما يضاف إلي قاعدة الاتساع / الضيق: غربة
الذات. بيد أن إنتاج تعريف بفضاء الدارالبيضاء يساق وفق التحديدات
التالية: 1 ــ المناخي: ضمنه يتحدد زمن الرواية، أي فصل الخريف.
ويتم وصف المناخ الوصف المعادل بين الخارج الطبيعي والداخل الذاتي:
كآبة نونبر وكآبة إدريس.إلا أن التحديد يتأسطر لما يتخيل وكأن نسرا جثم
علي المدينة فأظلمت، ليصبح التحديد يؤالف بين الخيالي والواقعي
والأسطوري، علما بتداخل هذه المستويات. (أحببت دائما ج ونونبر.
السماء الملبدة بالغيوم، الغربي الذي يهب بلطف. اللون المائل إلي
الرمادي، لكن جو اليوم ليس رماديا. إنه مظلم قاتم كأن نسرا من
النسور العظام غطي بأجنحته المدينة وحجب عنها النور) (ص / 123)
الرواية. (الج وكئيب، المدينة كئيبة، وأنا أيضا كئيب) (ص /
133). ويتعمق التحديد المناخي لما يكون إدريس عليما بخصوصيات
الأمكنة المشكلة للفضاء وفق ما يتبين في محاورته ل: (مارية): (عليك
أن تلبسي المعطف. إننا سنذهب إلي حي كثير الرطوبة) (ص /
153). التحديد المناخي أ وتزمين الرواية يطالعنا في بداياتها، مثال
(الأفعي والبحر)،(كازبلانكا). 2 ــ الهندسي: يخبر فيه السارد
الأمكنة، فيعمل علي التذكير بأسمائها في نوع من التمييز الدقيق،
إلي جانب مقارنة فضاء البيضاء بفضاءات أخر: (.. وأنا أحببتها
منذ طفولتي في صور متعاقبة: القنصلية درب بوطويل، مقاهي فردان، درب
الانجليز، سينما القوس طريق المسبح البلدي. كنت أقول إنها
الإسكندرية وبيروت في حيز واحد..أنا فيها وإليها إلي الأبد.) (ص /
123). والملاحظ من خلال الشاهد أنه كما تذكر الساحة يستحضر الدرب
والمقهي وقاعة العرض والطريق، أي مكونات الفضاء الهندسية بأتمها. 3
ــ الرمزي: لكل مدينة رموزها. والرموز عادة شخصيات نعتت بالجنون
وبالحمق، واقترن وجودها بوجود المدينة، بل وبأمكنة معينة فيها. واللافت
أن هذه الرموز تحفل بها الأشرطة السينمائية المغربية، أكثر من الحظوة
المتمثلة في الرواية المغربية، وإلي اليوم، لم تجرؤ دراسة متميزة علي
مسح موضوعة الجنون في الإبداع المغربي. (ليس المخترع شخصية من
شخصيات الإسكندرية أ وأثينا أ ونابولي. إنه شخصية بيضاوية، يملأ
مقهي فوكس بجداله الدائم بين الأميين والمثقفين) (ص / 124). إلا
أن الرمزي لا يقصر علي الشخصية فقط، بل يمتد إلي أمكنة متفردة في جانب
معين، التفرد غير المقتصر علي الكائن الواحد، وإنما الذي يخبره
الجميع: (..الواحات مطعم. الوحيد الذي يقبل الزبائن بعد
العاشرة. مطعم صغير هذه ميزته الوحيدة) (ص / 143). 4 ــ
التاريخي: من خلاله يستدعي تاريخ منطقة داخل الفضاء، أقول تاريخ
المقاومة بحثا عن الإنعتاق من أساليب الاحتلال، وأيضا عن الحرية
والاستقلال: (في هذه المنطقة بالذات انتصب فرسان مديونة في بداية
القرن يراقبون ما يجري داخل السور. لنتصور رئيس البارجة
وقائد الجند ينظران عبر المنظار المكبر. الفرسان المتصافين علي
الكدية في الضباب: صورة مؤثرة لم تسجل بعد). (ص /144). تعكس
التحديدات السابقة علاقة الفاعل بالموضوع، الذات بما يحيط بها من
تفاعلات، فتبد والكتابة ذاتية صرف، تمتح من جنس السيرة الذاتية، فيما
هي كتابة روائية وفق تحديد كاتبها وفهمه لجنس الرواية. ومما سبق نكون
انتهينا إلي قاعدة ثانية: قاعدة الألفة والائتلاف، حيث حميمية المكان.
4/ 3 القاعدة الثالثة والأخيرة التي تستوقفنا ثنائية: ضوء/ظل. وهذه
تستند إلي الخلفية الإيديولوجية الفكرية المحمولة من طرف السارد أ
و(إدريس)، علما بكون الأخير يساوي الأول. إن استحضار الفاعل (إدريس) في
علاقته بالمكان استدعاء لصورة شخصية احترفت الكتابة والاشتغال
بالتصحيح، وتقيم في شقة عليا شبه وحيدة، وهي أصلا، وحدانية الظل
والظلام. علي أن الدلالة الأبعد السم والمتعلق بالفكر، والذي يقارب
الوضعية غير الواضحة ل (جليل) الذي يعيش في الضوء، دون أن يحدد وبدقة
موقعه الاجتماعي. فلا ه وبصفته المتداولة (محامي) ولا بما يختلف عنها
(معايشة وسط الأغنياء). فالضوء الذي يعيش فيه يكاد يطبع حياته بالغموض.
وككل فالثنائية تجل والتباين الحاصل علي مستوي يعكسه المكان داخل فضاء
أوسع ه والبيضاء. إن القواعد التي جيء علي رصدها، هي ما يتحكم في بنية
الرواية، من حيث إنتاج معني بفضاء الدارالبيضاء، وصيغة تخيله وتلقيه.
وأعتقد ـ كما سبق ـ بأن إنتاج معني من هذا المستوي تتحكم فيه الخلفية
الفكرية الثقافية. فلم يعد يكفي الإلمام بصنعة الرواية، وإنما حاجة
الكاتب اليوم هي إلي الثقافة والمعرفة والبحث، في سبيل خلق النص
الثقافي الكلي والجامع. من ناحية ثانية، فإن الرواية المغربية، لم
تتمكن من الإحاطة الشاملة بالفضاء، بل لقد اختارت الرهان علي أسئلة
المكان بدل الفضاء. ولذلك تكررت أمكنة كالمقهي، البيت، الدرب، الحي
ونظر إليها في عزلة عن تشغيلها ضمن الفضاء. لكن السؤال الذي يرقني وأنا
أختتم هذه الدراسة:أتري في فضاء البيضاء اليوم ما يغري بالإبداع وما
يوحي بالكتابة؟
AZZAMAN NEWSPAPER --- Issue 1687 --- Date
17/12/2003
جريدة (الزمان) --- العدد 1687 --- التاريخ 2003 -
12 - 17