|
ناصيف نصار باحثاً في مبادئ الوجود التاريخي ... نحو رؤية فلسفية للحضور الإنساني
كرم الحلو الحياة - 20/02/09
إذا كان فكرنا العربي المعاصر قد اتسم بالصراع على مركزية الإنسان في
الوجود، مع غلبة منحى يحيل الأولوية إجمالاً الى ما عداه، حيث تعرَّضت
الأيديولوجيات العقلانية والعلمانية للتهميش والمحاصرة، بل والتهديد
والإقصاء، ما حكم عليها بالتراجع والإذعان أو التوفيق والمهادنة، فإن
ناصيف نصّار قد ظل ثابتاً، على رغم كل التحديات، على خطه العقلاني،
شاهراً الفكر الفلسفي في وجه كل الأيديولوجيات والعقائد التي تحاصره
وتتهده. إذ آل على نفسه تأكيد مركزية الإنسان، بوصفه حراً وسيداً
وصانعاً لوجوده السياسي والاجتماعي، والعقل الإنساني باعتباره المرجعية
الأولى في السياسة والاجتماع، منذ كتابه «نحو مجتمع جديد» في الستينات
من القرن الماضي، الى كتابه الأخير «الذات والحضور، بحث في مبادئ
الوجود التاريخي» دار الطليعة 2008. هذا بالذات ما هدف إليه في هذا
الكتاب الذي يشكل استمرارية وتطوراً في خطه الفلسفي، حيث أشار في
مقدمته الى أنه يُكمل الفكر الذي تبلور في كتابيه السابقين «منطق
السلطة» و «باب الحرية».
في هذا الإطار يجب أن يُدرج «الذات والحضور» وأن يُفهم المنحى الفلسفي
الذي يتضمنه. فالكتاب إسهام فلسفي مميز في مركزية الإنسان، والتشديد
على أن الإنسان والوعي الإنساني هما أساس كل حضور، بهما يتعيّن الماضي
والحاضر والمستقبل وتتحدد كل القيم.
الحاضر، كما يقول المؤلف، هو الحقيقية الأولى في الوجود التاريخي، لكن
لا يكفي الكائن - الذات لكي يكون حاضراً أن يكون موجوداً في ذاته فقط،
إذ ان حضوره رهن بتوسُّط الوعي الذي هو الشرط الأصلي لكل حضور قصدي الى
الذات، وهو مزدوج التركيب لأنه يشمل في فعل واحد حضور الذات الى ذاتها،
وحضورها الى غيرها. إلا أن الوعي ليس كياناً منفصلاً عن الذات، فلا
ثنائية في الذات بين الوعي والذات. كما أن الانفصال بين الذات وغيرها
من الذوات ليس انفصالاً كاملاً ومطلقاً، فليست ثمة هوة أنطولوجية مطلقة
بين الذات وبين أي ذات أخرى، وإلا لما أمكن نشوء أي لغة من اللغات.
إن الحضور الى الآخر تجربة وجودية مصاحبة لتجربة الحضور الى الذات،
وكاشفة لحقيقة مختلفة في طبيعتها عن الحقائق العلمية، وعن الحقائق التي
تنطلق منها الفلسفة الثنائية. فالحاضر الى الآخر يتعامل، بحضور القصدي،
مع ذات أخرى تشبه ذاته، إلا أنها «أخرى». لكن الحضور يكون أيضاً حضوراً
الى «واقع» كمستوى متميِّز تماماً عن الحضور الى الذات والحضور الى
الآخر، فالواقع يعرض نفسه على الذات الحاضرة كموضوع للإدراك قائم في
نفسه باستقلال عنها. ولا بد من الاعتراف في هذه الحال بوجود هوة
أنطولوجية بين الذات وبين ما هو واقع حولها وأمامها من كائنات الطبيعة.
وثمة حاضر بالمعنى الزمني، فضلاً عن الحاضر ذاتاً والحاضر واقعاً. وفي
هذا يرى المؤلف أن إحساسنا بالزمن متلازم مع إحساسنا بالحركة، والزمن
الملازم للحركة ينطوي في تكوينه على علاقة القبل والبعد التي نتوصّل
إليها بالإحساس والذاكرة. إنه إذاً نمط وجود متلازم مع الحركة
والتغيُّر. إلا أنه يجدر التمييز بين الزمن الذاتي والزمن الطبيعي.
فالزمن لا يظهر حاضراً إلا لكائن يتمتع بنوع من العلو عليه، وليس في
مقدورنا أن نثبت وجود مثل هذا النوع من العلوّ لدى كائنات الطبيعة، إذ
ان الكائنات الطبيعية تحقق صيرورتها في شكل تطوّر وليس في شكل تاريخ.
الإنسان وحده يستحق أن يتكلم عن زمنه بصفته تاريخاً له، وحده يعيش
الحاضر ويعرف أنه يعيشه بين زمن سبقه وزمن سيأتي بعده، ما يؤكد محورية
الوعي في ظهور الزمن حاضراً، سواء في شكل التطور أو في شكل التاريخ.
في رأي المؤلف أن الكائن الذاتي يتمركز في الحاضر، لأن وجوده الفعلي هو
وجوده حاضراً، ولكنه يتموقع ذهنياً في أي بعد يشاء من أبعاد الزمن.
ولكن المشكلة تنشأ عندما يعتمد الكائن الذاتي التموقع في الماضي مرجعاً
نهائياً للحاضر، ما ينتج منه ضمور قدرته على التكيُّف والإبداع.
فالتموقع في الماضي أو في المستقبل ينبغي وضعه في الحالتين تحت حقيقة
مركزية الحاضر الذي يجب أن تعود إليه الأولية في شبكة العلاقات بين
الماضي والحاضر والمستقبل. ولكن ما معنى أن يكون الحضور بداية في وجود
الإنسان؟
إن الحضور للكائن الذاتي هو حضور فاعل. في هذا الحضور يلتقي الماضي
والمستقبل في الإنسان بصفته كائناً حاضراً الى ذاته والى العلم حوله،
فمن داخله يمارس علوّه على الزمن.
ويعرض المؤلف للحضور العقلاني كشكل من أشكال الحضور يمارسه الكائن
الذاتي في علاقته مع ذاته ومع العالم من أجل وضع مسألة العقل في نصابها
الصحيح من وجود الكائن الذاتي. إن الكائن العاقل ذات فاعلة، والعقل
واحدة من صفاتها، لكن امتلاك القدرة العقلية لا يسمى عقلانية بل «عاقلية».
فالعقلانية يكتسبها الكائن العاقل بتفعيل العقل وتوظيفه سواء في ميادين
السلوك العملي، بما يجعل من حضوره حضوراً عقلانياً. لكن الحضور
العقلاني شكل من أشكال الحضور، وليس الحضور كله، ما يخالف الاعتقاد
الشائع أن الحضور العلمي - التكنولوجي يشكِّل حداً نهائياً لحضور
الكائن الذاتي الى الطبيعة، فثمة حضور فكري غير عقلاني الى الطبيعة،
كالحضور الشعري.
وانطلاقاً من تحليل مقولة الحاضر باعتبارها المقولة الأساسية الأولى من
مقولات الوجود التاريخي، ودور العقل في حضور الذات الى الواقع
وانخراطها فيه، إذ ان الحضور ليس حقيقة مستقلة في ذاتها وسابقة على
الوعي، وإنما هو حقيقة تأتي الى الوجود بطريق كائن يلاحظها ويسجِّلها،
انطلاقاً من تحليل هذه المقولة انتقل المؤلف الى تحليل مفهوم الغياب،
فلاحظ أن الذهن ينساق عفوياً الى فهم الغياب من خلال ربطه باللاوجود.
لكن الغياب ليس اللاوجود مطلقاً، بل اللاوجود في حقل إدراك معين. وهكذا
فالغياب كالحضور مرتبط بالإنسان والعقل الإنساني، فلا معنى للغياب إلا
لكائن يبحث عن معنى الوجود. فالقول مثلاً بغياب الحياة عن كوكب الشمس
يفترض حكماً وجود كائن يبحث عن إمكان وجود الحياة في الكون، والقول
بغياب استقلالية الفرد في المجتمع القبلي لا معنى له إلا لكائن يبحث عن
كيفية وجود الفرد في الاجتماع البشري عبر التاريخ. وهكذا يؤكد المؤلف
مركزية الإنسان والعقل الإنساني، بوصفهما الأصل والمرجع في الحضور
والغياب، بما يشكِّل خطوة متقدمة في مشروعه الفلسفي.
في رؤية ختامية إجمالية للكتاب يمكن القول إنه يشكِّل عملاً فلسفياً
بامتياز، يأتي في زمن أيديولوجي بامتياز، وإسهاماً آخر للمؤلف في معركة
العقلانية العربية المفتوحة منذ عصر النهضة. وهو يدحض بلا شك الموقف
النافي لوجود فكر فلسفي عربي أصيل، فالقارئ العربي في رأينا يمكن أن
يقرأ الآن «الذات والحضور» لناصيف نصّار الى جانب «الوجود والعدم» لجان
بول سارتر من دون إحساس بالضعف أو بالدونية والتبعية...