|
البراغماتية الأميركية الجديدة بعيداً عن الفكر الرسمي للسلطة السياسية
المستقبل - الاثنين 9 شباط 2009
|
جهاد الترك
لهذا الكتاب،
أهمية استثنائية، على الأرجح. ويبدو أن الأمر كذلك
فعلاً، باعتبار أنه يشكل إحدى الدراسات القليلة
وربما النادرة، في الوطن العربي، التي من شأنها أن
تفتح ملف ما يسمى "الفلسفة الأميركية" الحديثة،
على نحو غير مسبوق. يقدم المؤلف الجزائري على هذه
التجربة ـ المغامرة من خلال كتابه القيّم:
"الحداثة وما بعد الحداثة في فلسفة ريتشارد رورتي"
الصادر أخيراً عن "الدار العربية للعلوم ناشرون"
في بيروت. وفي ذهنه أن الأوساط الفكرية والفلسفية
والأكاديمية العربية، كانت ولا تزال تفتقر الى
المدخل النظري الذي ينبغي سلوكه لفهم الفكر
الأميركي الحديث. وقد اختار المؤلف، محمد جديدي،
الفيلسوف الأميركي، ريتشارد رورتي على وجه
التحديد، لاعتقاده الراسخ بأنه الأكثر تعبيراً
والأصدق تمثيلاً للثقافة الأميركية في بعدها
الفلسفي المعاصر.
فائض القوة
الأميركية
ليس صحيحاً الاعتقاد بأن الفلسفة
الأميركية، بشكلها البراغماتي، على الأقل، هي
وليدة فائض القوة الأميركية بشخصيتها المهيمنة على
العالم. قد يبدو هذا التوجه من قبيل الخرافة
الفكرية ومردّها الى أن مظاهر التسلط والعنف
والاستعلاء التي تمارسها الولايات المتحدة بوقاحة
لا تؤدي إلا الى أنماط فلسفية هي من نسيج هذا
التشبث بالبطش والاستهانة بالآخرين. ليس الأمر
كذلك، وإن بدا أن ثمة استخداماً ماكراً من قبل
النخب السياسية في الولايات المتحدة للفلسفة
البراغماتية، بحيث تبدو هذه الأخيرة ضرباً فجّاً
من التآمر الأميركي المريب على العالم ومحاولة
الاستيلاء على مقدراته ومصائره. ومع ذلك، ينبغي
التساؤل، على الأغلب، ما إذا كانت ثمة صورة واضحة
للفلسفة في أميركا قد توحي، بشكل أو بآخر، بأنها
تمتلك معالم أساسية في نشأتها وتطورها والنتائج
النظرية المترتبة عليها. قد تصعب الإجابة عن هذا
السؤال المعقد والغامض في الأساس من دون العودة
الى رورتي في ما توصل إليه من آراء على هذا
الصعيد. وهو يقارب هذه المسألة، في بعدها الواقعي
بإثارة مرحلتين اثنتين: أولاهما، الواقعة بين
الحربين العالميتين، وقد تميّزت بظهور القيادات
الملهمة، والأخلاقية. وهي الفترة التي شهت
الانطلاقة الأولى للفلسفة البراغماتية على يد
المفكر الأميركي الكبير، جون ديوي. والثانية،
وتتناول المرحلة التي أعقبت الحرب العالمية
الثانية. ومن أبرز سماتها ابتعاد الفلسفة عن
الناس، بدليل أن المناقشات الفلسفية في تلك
الأثناء كانت تدور بين فئة محدودة جداً من
المثقفين داخل الجامعات وعلى صفحات
المجلات.
البراغماتية بصيغتها
الأصيلة
عثر رورتي على ضالته المنشودة في
الفلسفة البراغماتية بصيغتها الأولى، إذا جاز
القول؛ بطبعتها المنقّحة الأصيلة التي شحنت
النقاشات الفلسفية في الولايات المتحدة في السنوات
التي توسطت الحربين العالميتين، بدماء جديدة. بدا
أن همّه الأساس كان يستهدف دحض الآراء التي تقول
بأن الفلسفة لا تؤدي دوراً فاعلاً ومحورياً في
الحياة الثقافية الأميركية. وهي لا تعدو كونها
أمراً محصوراً داخل جدران الأوساط الأكاديمية، الى
الحدّ الذي بات مسلماً به بأن الأكثرية الساحقة من
المثقفين الأميركيين تفتقر الى حقيقة هذا الفكر
لسبب مذهل هو أنها لم تكلف نفسها عناء الإطلاع على
المناهج الفلسفية في أشكالها الاغريقية والعربية
والأوروبية الحديثة.
ويؤكد نقاد ومؤرخون
أميركيون وأوروبيون، أن من يندرجون في خانة النخب
الثقافية في أميركا لا يستحوذون على تواصل موضوعي
مع فلاسفة من أمثال: أفلاطون، ديكارت، هيغل، نيتشه
وماركس. لا يتقبل رورتي ذريعة من يسعى الى تبرير
هذه الحقائق التي تقشعر لها الأبدان، بالقول إن
العزلة الجغرافية للولايات المتحدة خانقة وغير
مهيأة، أسوة بمثيلاتها، لاستقبال الأفكار الوافدة
واستضافتها على نحو دائم. من هنا، نلحظ تلك
الانتفاضة الكبرى التي قادها رورتي لبعث الروح في
الفلسفة الأميركية، من جهة، ولإقامة جسر من
التواصل الخلاق بين البيئة الثقافية في الولايات
المتحدة ومثيلاتها في العالم، وتحديداً الأوروبية.
هاله، على الأغلب، أن الولايات المتحدة، القوة
الأقوى في العالم، والأكثر طموحاً الى المساهمة في
صوغ التاريخ الإنساني، على الأقل في عقد الخمسينات
الماضية، لا تزال تلتقط بعض "الفضلات" الفلسفية
التي يلقيها الأوروبيون من على موائدهم الفكرية
العامرة.
الحافز الإنساني
حاول رورتي،
في سعيه الى البحث عن الحافز الإنساني في الفلسفة
الأميركية، أن يجيب عن التساؤلات الآتية: هل ثمة،
في هذا السياق، فلسفة لأميركا بالتحديد، بمعنى
أنها جزء حيوي من الموروث الثقافي الأميركي وقد
بلغ مرحلة تمكنه من الانتساب الى الفكر الفلسفي
بمضمونه الإنساني الأشمل؟ هل هناك فلسفة أميركية
"أصيلة" إذا جاز التعبير، لا تنطوي على تكرار أو
اجترار أو إعادة إحياء لتيارات ونزعات فلسفية وجدت
هنا وهناك خارج الولايات المتحدة؟ تساؤلات صعبة من
هذا القبيل ألقت على كاهل رورتي عبئاً ثقيلاً،
خصوصاً في ظل من كان يعتقد بأن ليس ثمة فكر مبتكر
يطلق عليه الفلسفة الأميركية. ودليل أصحاب هذا
الرأي على ذلك أن المهاجرين الذين راحوا يفدون الى
أميركا (العالم الجديد) حملوا معهم شتاتاً من
الأفكار والمعتقدات من حيث قدموا من مواطنهم
الأوروبية، ثم استثمروها على نحو يتناسب مع
تجربتهم الجديدة في "العالم الجديد". حتى إن بعض
المؤرخين والنقاد الأميركيين اعتبروا أن
"البراغماتية" وهي الفلسفة التي تكاد تطغى على
التوجهات الفكرية في الولايات المتحدة، ليست صنيعة
أميركية بالكامل. وبالتالي فإنها لا تعزى الى
التجربة الإنسانية هناك بقدر ما تعبر عن تطلعات
أولئك الذين هاجروا الى تلك الأراضي "الغامضة" وفي
حوزتهم تجارب وطموحات وإرث غني نقلوه الى أميركا
في رحلاتهم الطويلة عبر المحيطات. والأرجح أن هذا
الإحساس العميق بالعجز عن مقارعة الأوروبيين في
المجال الفلسفي لا يزال سائداً حتى اليوم في اوساط
النخب الثقافية في الولايات المتحدة. ولا تشفع
لهؤلاء مئات الكتب التي تصدر سنوياً عن دور النشر
في الولايات المتحدة في الحقول الفكرية
والاجتماعية والتاريخية. إذ أن هناك من يدرج هذه
الإصدارات في خانة الوقت الفلسفي الضائع، طالما
أنها لا تضيف جهداً نوعياً ومميزاً الى الفلسفة
المعاصرة، خصوصاً في بعدها
الأوروبي.
الإرتزاق للسلطة
هل يعني هذا
التصور ومرده الى مؤرخين أميركيين معتبرين، أن
البيئة الفكرية في الولايات المتحدة جدباء ليس
لعلة فيها، بل لأنها تخلفت عن الركب الفلسفي
وفاتها قطار الانتساب الحقيقي الى الثقافة
العالمية؟ ليست هذه من القناعات التي شغلت بال
رورتي. ولم يكن شأنه في هذا نابعاً من تعصب أعمى
أو مريب أو عنصري للولايات المتحدة. كما لم يخيّل
إليه أبداً أن يزعم أنه لا بد من تشكيل "فلسفة
أميركية" بأي ثمن للحد من ذلك الانتقاص الأوروبي
للفكر الأميركي الحديث. لم يكن رورتي انتهازياً،
في هذا الإطار، كما لم يقدم على الارتزاق للسلطة
السياسية في الولايات المتحدة. ولم يدل بدلوه في
هذا المجال. ولم يفكر يوماً في أن يضع رهاناته
الفلسفية، أسوة بغيره من المثقفين الأميركيين، في
كفة الإدارات الأميركية المتعاقبة. تظهر اللوحة
التي رسمها للفلسفة الأميركية أن ثمة اختلافاً
عميقاً والأرجح بنيوياً حول المشكلات والمناهج
الفلسفية في أميركا اليوم كما كانت عليه الحال
تماماً في ألمانيا عام 1920 عندما برزت بقوة مدرسة
"الوضعية المنطقية" التي أرخت بثقلها على الوسط
الفلسفي هناك مخلّفة شرذمة في الفكر وفوضى في
البنيان الفلسفي. أخذ رورتي على عاتقه صوغ خطاب
فلسفي سمته الأولى الصرامة العلمية التي راحت تزيل
عن الثقافة الأميركية ملامحها الاعتباطية الواهية
وترددها وقلة خبرتها في هذا المجال، لتنحو بها،
بهدوء وبطء نحو الفلسفة الاحترافية. عثر رورتي على
ضالته المنشودة في ما يسمى اصطلاحاً
"البراغماتية". وكانت سائدة، بالفعل، على نطاق
واسع وفاعلة أيضاً في صفوف المثقفين الأميركيين في
الفترة التي فصلت بين الحربين العالميتين. غير أنه
لم يركن إليها وفقاً للمنظور التي كانت متداولة
فيه. في كتابه الهام "الفلسفة ومرآة الطبيعة"،
اجتهد رورتي في محاولته لاكتشاف النزعات الإنسانية
الكامنة في الطبقات السفلى لهذه الفلسفة، ومن ثم
استخدامها في قراءة جديدة، أميركية هذه المرة،
لتاريخ الفلسفة.
اقتباس أوروبي
بدا
رورتي رائداً مبدعاً ومبتكراً في هذه القراءة لسبب
رئيسي هو أنه أنقذ الفلسفة البراغماتية، في صيغتها
الأميركية، من نفسها المنعزلة، من إحساسها المرضي
بجبروت القوة الأميركية الطاغية. والأغلب، في هذا
السياق، أنه تجرأ على القيام بالخطوة الأولى نحو
التمرد الإنساني على فكر السلطة الرسمية وأدواتها
التي بدت، في الخمسينات والستينات الماضية، منشغلة
بما يشبه حوار الطرشان: كيفية التوصل الى فكر
فلسفي يقوم بالدرجة الأولى على التنظير الرسمي
والأكاديمي للهيمنة العسكرية والاقتصادية. كان
رورتي سباقاً، بكل المقاييس، الى استدراج
الفلسفتين الألمانية والفرنسية الى حلبة الفكر
الأميركي المعاصر على نحو من الحاجة القصوى الى
إدخال دماء جديدة الى الثقافة الأميركية المعوّقة
الى حد كبير. من الفكر الألماني، اقتبس نيتشه،
خصوصاً في ما يتعلق بتحرير الفرد من السلطة
الإيديولوجية للعقل باعتبارها إرهاباً فكرياً تسقط
على التاريخ قوالب فكرية جاهزة تحدث تشويهاً حاداً
في الثقافة الإنسانية. كما اقتبس منه أن العقل لا
يمتلك وحدة السلطة المعروفة. ثمة في أعماق النفس
البشرية ما يتحكم بالسلوك البشري كالأسطورة
والخرافة والمعتقدات البدائية، على سبيل المثال.
واقتبس من المفكر الفرنسي، جاك دريدا، نزعته
التفكيكية التي لا تنظر الى الإنسان والمجتمع
والدولة والتاريخ على أساس من البنى المغلقة. فهذه
الأخيرة "حقائق" جاهزة مضللة وفارغة. أما الحقائق
الأخرى الأصيلة فتكمن في تفكيك هذه البنى الصلبة
الى أجزائها الأولى، الى شظاياها المتطايرة،
المتدفقة بعفوية قبل أن يعمد العقل الى تكديسها
معاً على نحو عشوائي.
بدا رورتي في مغامرته
المشوّقة لإعادة إحياء الفلسفة البراغماتية، في
الستينات الماضية، منفتح الشهية على كل الأفكار
والتيارات والنزعات الفلسفية من دون استثناء. وقد
شكلت هذه المبادرة الجريئة، بالمقاييس الأميركية،
سابقة بكل معنى الكلمة، لأنها أحدثت ثقوباً كبيرة
وفاضحة في جدار الفكر الأميركي المقفل على التصحّر
والفراغ. وظف رورتي الأفكار الأوروبية، قديمها
وجديدها على نحو يغني البراغماتية الأميركية ويزيل
عن وجهها قناع الانتهازية السياسية، وأولوية
السياسة على الفكر في صوغ أي مشروع فلسفي
للمستقبل. كان منحازاً، في هذا المجال، الى الفكر
أولاً، نائياً بنفسه عن "المبادئ" المضللة للسياسة
باعتبارها محاولة مشبوهة لإلقاء القبض على الفكر،
أو إخصائه، أو إفراغه من مضمونه. وقد ينبغي
التساؤل عن الأثر الذي خلّفه رورتي في البنية
الثقافية الأميركية في الوقت الراهن. يبدو، للوهلة
الأولى، أن مشروعه الفلسفي قد تعثر، بشكل أو بآخر،
بدليل التخبط الفكري الذي تشهده الولايات المتحدة
اليوم. ومع ذلك، ليس هذا التصور صائباً بالكامل.
فقد نجح هذا المفكر الكبير في أن يرسي دعائم قوية
ومستمرة لأجيال من المثقفين الأميركيين يستلهمونه
في قراءتهم لأحوال الولايات المتحدة والعالم.
الفكر، في العادة، يتقدم بحذر، بتمهل، بخوف
أحياناً. ميزته أنه لا يستعجل الخطى.
[
الكتاب: الحداثة وما بعد الحداثة
في فلسفة
ريتشارد رورتي
[ الكاتب: محمد جديدي
[
الناشر: بيروت، الدار العربية للعلوم
ناشرون،
مؤسسة محمد بن راشد آل مكتوم،
2008