|
الكتابة فضاء هويات سندبادية وفضاء البين- بين 'الكتابة بيدين' لعبدالسلام بنعبد العالي
عبد الله باعلي . المغرب
السبت,
11 يوليو 2009 03:20
1 ـ فلسفة ساخرة
كتابة ساخرة، مرحة، بنكهة نتشوية. هذا ما يمكن قوله بادئ الأمر عن كتاب
بنعبد العالي الأخير'الكتابة بيدين'. كتاب نقدي، يواصل فيه صاحبه تقليب
المفارقات التي تطبع يومي(نا)، وثقافت(نا). غير أنه نقد لا تسلم منه الذات،
إذ هو نقد مزدوج بعبارة الخطيبي. نقد ينصب على الذات كما ينصب على الغير.
من هنا حق وصفه بالساخر، وليس المتهكم ، إذ'يصدر التهكم دوما عن ادعاء صريح
أو ضمني. المتهكم يشعر دوما أنه من سلالة رفيعة. لذلك فهو لا يتهكم على
نفسه، ولا ينصب على ذاته. ليس هناك تهكم انعكاسي. على عكس السخرية التي
تسخر من نفسها قبل كل شيء (ص 47).
سخرية بنعبد العالي، هنا، عابرة للحدود. غير مطمئنة لإقامة دائمة ثابتة.
إنها سخرية رحالة دولوزي، لا يكتفي بوصف مشاهداته بل يتوقف عندها ليقلق
بداهتها. إنها فلسفة إذن. لكنها فلسفة تتمرد على نفسها، على تحديداتها
التقليدية والمدرسية، التي تفرض عليها حدودا للإقامة، والفعل. إنها فلسفةٌ
رحالة.
تأبى فلسفة بنعبد العالي أن تسلم نفسها لسطة النصوص الفلسفية، لكن دون
ادعاء إمكانية أن تسلم من حضورها أو توجيهها (ص: 39-40). إنها تطمح
للانتماء الفلسفي عبر الانفصال والتمرد. نقرأ في نص'فلسفة وفلسفة :'طريقتان
للتعامل مع الفلاسفة ونصوصهم: طريقة تدفعنا لأن نفكرمع الفلاسفة وضدهم،
نشتغل على نصوصهم وننشغل بها. وطريقة أخرى نقتصر فيها على الاشتغال بـ
النصوص وتوظيفها، بل والاستناد عليها... في الطريقة الأولى نشتبك في قضايا،
أما في الثانية فنحصل معرفة. في الطريقة الأولى نسعى لأن نشارك الفلاسفة
دهشتهم، فنقترب منهم كلما شاركناهم ابتعادهم عن أنفسهم، ونقتحم نصوصهم،
اقتحام العلماء للمختبرات، هاجسنا الأساسي توليد الأسئلة وخلق المسافات
وإحداث الانفصال. أما في الثانية فلا يتعدى مسعانا الاقتراب، ما أمكن، من
الفيلسوف بهدف إرواء ظمئنا الفلسفي، وإشباع فضولنا المعرفي والاطلاع على ما
نقل من أقوال وما أُثر من أفعال (ص 90-91).
من هنا يمكن فهم النشاط الفلسفي لبنعبد العالي، باعتباره ارتحالا في الحدود
بين- بين، ارتحالا تكتشف فيه الفلسفة ذاتها في النقد الأدبي، والسينما،
والحياة اليومية. لكنها لا تكف، في ارتحالها، عن النقد: نقد الأشياء
الخارجية ونقد الذات بالمثل.
2 ـ سؤال الكتابة
في'الكتابة بيدين يصادف القارئ تأملات دقيقة غنية ومركزة حول مسألة
الكتابة. فهي مسألة شائكة، في نصوص الكِتاب، لأنها تتشابك مع قضايا جوهرية
ذات صلة بتاريخ الفلسفة، و الأدب، والتقنية،والترجمة، والحياة اليومية
للكُتاب، يمكن الاقتراب منها كما يلي:
التفكير عمل اليد
اليد تعبر، بالكتابة، عن ذروة التآلف بين الإنسان الصانع homo faber
والإنسان المفكرhomo sapiens . إنها تعبر عن الشيء الخاص بالإنسان الذي
نسميه معنى. وتكفي قراءة أولية لمعاجم اللغة 2 لتبين أن'اليد تختزل النشاط
الإنساني بأكمله، إذ هي تشير لمعاني: العطاء، والأخذ، والتغلب، والصفح،
والحب، العطف، الدنيوي والمقدس...وهو ما جعل هايدغرينفي أن تكون للحيوان
أيد. الحيوان يملك قوائم، والقوائم لا تصون ولا تشير ولا تدل ولا تتكلم ولا
تهب ولا تعطي، لا تأخذ ولا ترد، إنها لا تفكر' لأن التفكير عمل اليد '(هايدغر)'
(ص 93).
لقد اكتشف الإنسان أن 'التفكير عمل اليد 'منذ آلاف السنين، فكتب على الطين،
والحجر، والخشب،والجلد... وتوج جهده بالكتابة على الورق. ولنا أن نتصور
عناء الكتابة و مشقتها عند القدماء. هل معنى ذلك أن الكتابة أصبحت أمراً
هينا، عندما أصبحت نقراً على لوحة الكمبيوتر؟ أليس عناء الكتابة، قبل كل
شيء، عناء التفكير؟
يلاحظ بنعبد العالي أن تغير تقنيات الكتابة وأدواتها ليست مسألة شكلية، إذ
تعمل هذه التقنيات على تغيير طرق الكتابة و أسلوبها، لكنها أيضا قد تطبع
تصرف الكاتب وتحدد سلوكه'(ص23). إن الأمر يتعلق بآلة الكتابة كوسيط (غير
أمين) في عملية الكتابة. فهذا رولان بارت يبدي انزعاجه من الآلة الكاتبة '
لأنها تتنافى مع إمكانيات كان يسمح بها قلم الرصاص، بل قلم الحبر نفسه من
تحوير وخدش وحذف'(ص23). نقرأ الامتعاض نفسه عند دريدا وهايدغر من آلة
الكتابة التي تحجب حميمية التجربة، تجربة الكتابة باليد (ص92).
لعل الأمر لا يتعلق بمجرد تغيير لأدوات الكتابة، بل إن الأمر يطال ماهية
التجربة وخصوصيتها، فتغيير أدوات الكتابة هو تغيير لماهيتها. يظهر ذلك جليا
في استعمال الكمبيوتر'فقد تبين أن هذا الجهاز ليس مجرد آلة جديدة لكتابة
النص وخطه فحسب، وإنما هو أداة مضمونة لحفظه وتعديله و ضمه إلى نصوص أخرى
وإلصاقه بها' (ص23). وقد تبين أيضا أن انقطاع الكهرباء أو تعطل الجهاز(بفعل
فيروس مثلا)، معناه احتجاب النص أو امحاؤه.
بتغير أدوات الكتابة تتغير أخلاقياتها، كما يلاحظ المؤلف، وإمكانات تفاعل
النصوص مع بعضها، من حيث التلاقح، والاقتباس، والتناص، والسرقة. إن الأمر
يتعلق في نهاية الأمر بالتقنية التي تعمل، كما يلاحظ هايدغر على تغيير
ماهية الإنسان. وليست الكتابة بمعزل عن ذلك التغيير. فماهية الكتابة وماهية
الفكر تتغير من يد تحفر أو تخط وترسم إلى يد تنقر.
ب- الكتابة قراءة
في نص 'لا أملك إلا المسافات التي تبعدني' يتوقف المؤلف عند ملاحظة تهم
نقدا موجها لكثيرمن النصوص التي تستند إلى غيرها من أجل الاقتباس، أو
الاحتجاج، أو الاستلهام. وكأن النقاد، أولئك، يدعون إلى تطهير النصوص
فينصحون الكتاب بأن 'يقلعوا عن استنساخ غيرهم، ويثبتوا كفاءاتهم وقدرتهم
على الإبداع. بأن ينطلقوا من 'درجة صفر للكتابة' '( ص3 (يذكرني موقف هؤلاء
النقاد بنقد ابن السبعين (المتصوف المغربي) لابن رشد (الشارح الأكبر)،
فيتهمه بالتبعية المطلقة لأرسطو حتى إذا قال أرسطو بأن الواقف قاعد لم يزد
عليه شيئا. يصدر هذا الموقف، فضلا عن عداء للفلسفة، عن تصور لعمل الشرح
والتلخيص كعمل مبتذل، لا يبلغ مرتبة التأليف. من المؤسف ترديد هذا الحكم
اليوم وقد تبين أن الشرح والتلخيص، كتابة لها أغراض وغايات، تختلف عن أغراض
الكتابة الأولى للنص/الأصل، ولا تقل عنها أصالة وأهمية.
يمكن قول نفس الشيء عن النقد الموجه للنصوص العربية المعاصرة التي تتآلف
وتتداخل وتتناص. فنقد تآلفها كما يلاحظ بنعبد العالي يصدرعن مسلمة 'أن
الاقتباس أمر يتم دوما بوعي وسبق إصرار. والحال أن الكاتب غالبا ما يقتبس
إن ظن أنه صاحب الفكرة وأنه السباق إليها'(ص 39). ويمكن أن نضيف أنه نقد
صادر عن تصور ميتافيزيقي للكتابة يكون، وفقه، المؤلف هو أول وأبلغ، من قال
في الأمر. إنه تصور يُسقط من حسابه أن التفكير'لف ودوران' وهو' مكر يوازي
مكرالأشياء المطروحة أمامه، وهو بالتالي'كلام متعدد ما انفك يعود صوبنا في
الوضوح الغامض لما سبق أن قيل ' (ص 40).
الكتابة، بهذا المعنى قراءة متواصلة تحمل معها خربشات وملاحظات الهامش
فتعمل على تحويل نسبِ المقروء من الكاتب إلى القارئ، الذي يغدو بدوره
كاتبا.
ج- الترجمة كتابة
إن النقد الموجه إلى الكتابة الشارحة، والكتابة الملخصة، والكتابة
المُقتبِسة، يوجه كذلك إلى الترجمة. ينظر إلى المترجم باعتباره مجرد وسيط
بين النص الأصلي والقارئ في لغة أخرى. و يكون النص المترجم كذلك، وفقا لهذا
التصور، مجرد نسخة عن الأصل.
إن ازدراء الترجمة، هذا، يصدر عن ميتافيزيقا الأصل، التي تتصور الكتابة
عملا يصدر عن بدء أول طاهر يمتلك فيه المؤلف منابع القول.مقابل ذلك، يقتضي
الاعتراف بقيمة الترجمة إدراك أن المترجم كاتب، لا يقل عمله أصالة عن مؤلف
النص المترجم. نقرأ لبلانشو: ' إن المترجم كاتب يتمتع بأصالة فريدة، وهذا
بالضبط حيث لا يدعي أية أصالة، إنه المتحكم في الاختلاف بين أيٍّ من
اللغات، لا بهدف محو هذا الاختلاف والقضاء عليه، وإنما بهدف توظيفه كي يبعث
في لغته، بما يحمل إليها من تحولات عنيفة أو رقيقة، حضورا لما هو مختلف
أصلا في الأصل'3 .
إن غنى الترجمة، و وَجاهة عمل المترجم تظهران في ما تسمح به الترجمة من
حركة ذهاب وإياب، من بناء وهدم، في اتجاه النص الأصل ولغته، وفي اتجاه النص
المترجَم ولغته. حركة الذهاب والإياب تلك هي ما تتيحه الطبعات المزدوجة
للنصوص. يلاحظ بنعبد العالي أن تلك الطبعات 'لا تتوجه نحو قارئ لا يحسن
اللغة الأصل، ولا نحو ذاك الذي يجهلها، وإنما نحو قارئ مهموم بإذكاء حدة
الاختلاف حتى بين ما بدا متطابقا، قارئ غيرمولع بخلق القرابة، وإنما بتكريس
الغرابة، قارئ يبذل جهده لأن يولد نصا ثالثا بعد قران النصين واللغتين' (
ص37).
إن الترجمة، بهذا المعنى، كتابة بيدين. يد المؤلف ويد المترجم. وتقدير عمل
المترجمين' هؤلاء الكتاب الناذرين، الذين لا يضاهيهم أحد'، كما يسميهم
بلانشو4، يقتضي وجود قراء، يؤمنون بالقراءة عملا لا متناهيا، ارتحالا بين
النصوص، وارتحالا داخل النصوص، التي تكتب بأكثر من يد.
3 ـ الكتابة بيدين
أن تكتب بيدين ليس معناه أن تكون أخطبوطا. إن الأمر لا يتعلق،كذلك، بكائن
غرائبي، بقدر ما يتعلق بنشاط للفكر، تكف فيه الذات عن أن تكون مستغنية عن
الغير. وتكف، كذلك، عن يقينها الأعمى، بنفسها. بمعنى آخر، أن تكف عن أن
تكون ديكارتية.
في الفكر المعاصر، المنشغل بتقويض الذاتية، تقدم الكتابة نفسها باعتبارها
مفعولا لتفاعلات لا متناهية بين النصوص. فثمة حركة جدلية تجعل الكتابة سفرا
بين- بين، أساسه اكتشاف اختلافية الذات في ما يتيحه لقاء الغير. يقول دولوز
بصدد كتاباته المشتركة مع غواتاري :' لم يكن يهمنا أن نعمل معا، بقدر ما
كان يعنينا هذا الحدث الغريب الذي هو أن نعمل بيننا. كنا نكف عن أن نكون
'مؤلفًا '، وهذا البين- بين كان يحيل إلى آخرَين مختلفين عن هذا الطرف أو
ذاك' (ص 7).
لا ينسحب هذا الأمر على الكتابة الثنائية، فالكتابة المعاصرة هي بالضرورة'
كتابة بيدين، حتى وإن كان الموقعُ يدا' واحدة' ( ص8). معنى ذلك أن الكتابة
هي كتابة بوليفونية. فكل نص من النصوص مسكون بأصوات ونصوص أخرى. وكل كاتب
يجد يدا أخرى تعمل، إلى جانبه، على تكملة النص.من هنا لم يعد ممكنا أن نفرق
' بين من يكتب من جهة [ ومن يترجم] ومن يعلق من
جهة أخرى، بين من يؤلف ومن يشرح، من يفكر ومن ينتقد... في هذا الإطار ينبغي
أن نفهم تبادل الكتابة بين فوكو ودريدا بين دولوز وفوكو، بين هؤلاء جميعهم
وبين بلانشو'( ص32).
لكن أليست الكتابة دوما كتابة بيدين؟ كيف يمكن، إذاً، أن نقرأ تلخيص
السياسة لابن رشد، ورسالة حي بن يقظان لابن طفيل، ورسالة الغفران للمعري؟
أليست كلها كتابات بوليفونية، أو بعبارة بنعبد العالي ' كتابة بيدين ؟
الهوامش
1 ـ عبد السلام بنعبد العالي، الكتابة بيدين، دار توبقال للنشر، ط 1، 2009.
2 ـ قارن، مثلا، بين ما تحيل إليه كلمة 'اليد ' في'لسان العرب' لابن منظور،
وبين كلمة main في معجمي ROBERT و Dictionnaire de l Acad'mie fran'aise .
3 ـ موريس بلانشو، فعل الترجمة، ضمن،أسئلة الكتابة، ترجمة، نعيمة بنعبد
العالي و عبدالسلام بنعبد العالي، دار توبقال للنشر، ط 1، 2004. ص 86.
4 ، بلانشو، نفسه، ص 83.
* كاتب من المغرب
عن موقع كتاب من أجل الحرية