|
ثلاث لحظات مفصلية تلخص جهد العاملين في الشأن الفلسفي في العصر الحديث والمعاصر هي بالترتيب الزمني: لحظة التداولية، ولحظة النظرية النقدية، ولحظة العقلنة التواصلية.
لحظة التداولية، لحظة غطّت المنعرج الألسني، وفتحت آفاق الانسان المعاصر على اللغة ككائن حي، منفتح على هموم الانسان وقضاياه، وما على الانسان الا أن يحسن ادراكها وترتيبها، ومن ثمّ ربطها بالمنطوقات اللغوية فتصير أفعال اللغة هي أفعال الانسان، وتصبح اللغة أداة التواصل الأساسية. واللحظة الأخرى هي النظرية النقدية، وهي لحظة النقد الراديكالي للمؤسسات الفكرية الاجتماعية والاقتصادية القائمة. نقد عبّر عنه أصحاب هذه النظرية من الفلاسفة بقولهم: إن العالم المعاصر ليس عالم الأحلام الموعودة، وأرض السر الكبير، بل إنه عالم مريض سمته التشيؤ، ومعالمه الاغتراب والاستبداد والتطرف. أما لحظة العقلنة التواصلية فهي لحظة تضع في رأس أولوياتها إعادة تأسيس عقل جديد يعمل بجدية ومرونة وانفتاح على تنظيم العلاقة بين المعرفة المجردة الباحثة عن انسجام العقل مع مقولاته الذاتية، وبين الواقع الاجتماعي التاريخي المنتجة فيه. وبذلك لم يعد فعل التفلسف كما سنراه وبخاصة مع علي حرب في كتابه «تواطؤ الأضداد» (الدار العربية للعلوم - ناشرون 2008) يبنى انطلاقاً من قيم علوية مستلهمة من عوالم الخير والشر، كما بلورها الفلاسفة الميتافيزيقيون، بل يبنى انطلاقاً من أخلاقيات المناقشة لنبش ما عجز المجتمع عن القيام به نتيجة وقوعه تحت سطوة الألسنية والتشيؤ وسيطرة التعصب والمغالاة، وللنفاذ الى أعماق الانسان لاستخراج ما بقي عالقاً في عقله من حيوية لمواجهة مظاهر الهيمنة والتسلط المجتمعية الراهنة التي تعبّر عنها الفاشيات المختلفة، والأصوليات المتعددة، والأنظمة الشمولية المستبدة.
تمثلت لحظات الفلسفة الثلاث: التداولية، والنقدية والتواصلية بأسماء كبيرة منها: فوكو، وبورديو، ودولوز، ودريدا، وهابرماس. وهي أسماء تركت بصماتها في كتابات علي حرب: «إن ما أولفه هو أيضاً ثمرة مواكبتي للمستجدات الفكرية والطفرات المعرفية، بقدر ما هو حصيلة كل ما قرأته من أعمال فكرية، قديمة أو حديثة، عربية أو غربية»، لكن هذه البصمات ليست بصمات من يقرأ ليتماهى بهذه الأسماء الكبيرة، ويقلّد، وإنما بصمات من يقرأ بهوى وشغف، فيجتهد ويبتكر، أو بكلام آخر يخلق ويخرق، لكي يغيّر ويؤثر، أو لكي يبني ويركب، وهذا هو محك الجدة والجدارة والمشروعية. مؤدى هذه القراءة أن كتابات علي حرب تؤسس لفلسفة جديدة تواءم بين العقل والفعل أو الأصالة والحداثة، وإنما بلورة ممارسة جديدة للفسلفة قوامها النقد، وفتح الامكانات للفهم والتشخيص، أو لاعادة البناء والتركيب، وبناء وتركيب الانسان والمجتمع والعالم، انطلاقاً من الارتياب بالانسان كما يفهم واقعه، أو يعرّف بنفسه، أو كما يعلن عن مقاصده. والسبب في ذلك على ما يرى علي حرب أن اللغة مماثلة والنصوص مبطنة، والمعاني متعددة، والمفاهيم ملتبسة والنظريات مخرومة، بقدر ما هي الاحداث ملتبسة، والحقائق متعددة والقيم هشة حتى وإن اتصلت بقيم الحق والخير والعدل والتحرر.
هذه الممارسة الجديدة لفعل التفلسف عند علي حرب لا تموّه المشكلات التي تطرح على انسان اليوم، أو تهرب من مواجهتها، لأن مشكلة الانسان كما يقول مؤلف الكتاب هي مع نفسه بالدرجة الأولى، وهذا هو معنى النقد الذي يمارسه، بما هو محاولة لفهم ما نحن عليه، أي لما نطمسه ونحجبه، أو لما نجهله ونتناساه، أو لما نتورط فيه ونتواطأ ضده، أو لما نرتكبه من الفضائح أو نحصده من الكوارث بهدف كسر ارادة التألّه والتحكم والهيمنة والالغاء والاستقصاء.
على هذا النحو يقرأ علي حرب، يقرأ بعينين نقديتين تفكيكيتين القضايا التي يدور حولها كتابه. من حوار المذاهب الى حروب الطوائف، ومن الحريات الفردية الى قضية العيش معاً، ومن حرب تموز (يوليو) في لبنان الى المعركة الكلامية حول أقوال البابا في شأن الاسلام. وهو يدور أخيراً بل أولاً حول اسئلة القيم والمصائر كما حول أزمة العالم المعاصر.
من المفارقات أن ازمة القيم في القرن الواحد والعشرين على ما يرى علي حرب تترافق مع التقدم الهائل والتطور المذهل في العلوم والتقنيات. فمن جهة التكنولوجيا النووية التي نامت قضيتها لفترة، ثم يفتح ملفها الآن مع التجربة الكورية والبرنامج الايراني، على النحو الذي يقض مضاجع الذين احتكروا هذا السلاح المنتج للدمار الشامل، والذي يخرج الآن عن السيطرة بعدما اصبح سلعة تباع وتشرى. ومن جهة التقنيات البيولوجية التي تتيح عبر فك رموز الأبجدية الوراثية التلاعب بخريطة الأنواع الحية، ومن بينها الانسان، كما تتيح لهذا الأخير استخدام وسائل في الاخصاب والحمل والانجاب والولادة تزعزع مفاهيم وتقاليد راسخة حول الخلق والنسب والأبوة منذ آلاف السنين. ومن جهة الانفجار في ثورة المعلومات والاتصالات التي تحولت معها البشرية من طور حضاري الى آخر، تراجعت فيه قيم الفكرة والحجة والحقيقة، لمصلحة قيم أخرى منبثقة عن مجتمع الإعلام، تتمثل في العرض والأداء والمسرحة وتتغلب فيه الخدمة على المنتج نفسه، بقدر ما يتغلب الانتاج الناعم على الانتاج الثقيل ورأس المال المالي على رؤوس الأموال الصناعية والزراعية، تمهيداً لازدهار التجارة الالكترونية. خلاصة ذلك، أنه مع القنبلة النووية، والهندسة الوراثية، والثورة المعلوماتية، لا مجال بعد ذلك للكلام على حقائق مطلقة، وحلول قصوى، أو قيم نهائية سواء تعلق الامر بالعناوين القديمة أو الحديثة، بالدين والعقلانية، أو بالايمان والحرية، أو بالمحافظة والثورة.
ان التقدم الهائل والتطور المذهل في العلوم والتقنيات لم يغير في القيم وحسب. وإنما غيّر كما يقول علي حرب في خريطة الصراعات بين القوى والكتل والدول الفاعلة، سواء على المستوى الدولي، أو على المستوى العربي والاقليمي، لا سيما بعد انهيار الاتحاد السوفياتي وأحداث أيلول (سبتمبر) الاميركي، وتصاعد الأصوليات الدينية الاسلامية.
هذه التغييرات يستطلع علي حرب أبعادها في بلداننا ومجتمعاتنا من خلال الدعاة الاسلاميين والقوميين والاشتراكيين، فيكتشف ان المثقفين الحداثيين قدموا أنفسهم بصفتهم دعاة نهوض وتقدم، فيما هم كانوا رجعيين إذ تمسكوا بحداثة مستهلكة عمرها أربعة قرون. كذلك ادعّوا أنهم أصحاب فكر نقدي، وفكر تاريخي، ولكنهم تعاملوا مع شعاراتهم بمنطق لاهوتي، فانتقلوا من عبادة الأنبياء والأصول، الى عبادة الحداثة وتقديس العقل، فضلاً عن تقديس الزعماء من لينين الى ماو ومن غيفارا الى كاسترو، ومن عبدالناصر الى صدام، فكانوا اصوليين حداثيين، وصل بهم الأمر، تحت ذريعة مقاومة أميركا الى العمل تحت يافطة الأسلمة. في المحصلة الأخيرة، تحوّل المثقفون الحداثيون على ما يرى علي حرب بشقهم القومي والاشتراكي من جلباب الأب الفعلي، أو الأب السياسي، الرئيس القائد أو الزعيم الأوحد، الى عباءة الفقيه الذي بات القائد والرمز والناطق باسم الله على الارض.
باسم الأسلمة تحوّل الدين الى نظام شمولي، بحسب صاحب كتاب «تواطؤ الأضداد»، يهيمن على مختلف مناحي الحياة المعاصرة، ويمارس الوصاية على الأمة والهوية، من خلال فكر أحادي مغلق، ومنطق دوغمائي، وعقلية اصطفائية نرجسية، تستعدي الآخر والعالم، وتهرب من تحمّل المسؤولية، وتشل ارادة الخلق والتحول، وهذا هو الأخطر. يكتب علي حرب في هذا السياق: «كل الأمم لديها تراثات تهتم بحفظها والعمل عليها لاستثمارها في صناعة الحاضر باستثناء العرب الذين قرروا، وعلى العكس من اسلافهم الاستقالة من مهام التفكير الحيّ المستقل والخلاّق، لكي يشتغلوا بعبادة الأصول والنصوص». ومن هنا لم تعد المسألة قضية دفاع عن الايمان الديني، بل كيف نستدرك وقوع الكوارث والأخطار التي يسببها أصوليو الدين.
من لا يحسن قراءة المتغيرات تهمشه الأحداث أو تدهمه المفاجآت. ومن لا يعترف بالحقائق لا يحسن الدفاع عن الحقوق والمصالح، وعلي حرب من هذا القبيل قارئ جيّد للمتغيرات، وعامل متحمس للاعتراف بالحقائق. حقائق تذهب الى القول ان ما نواجهه من تحديات، أو نقع فيه من مآزق هو وليد أفكارنا بالدرجة الأولى سواء تعلق الأمر بالغرب أو بالعرب أو بالاسلام. الأمر الذي يحتاج الى عدة فكرية جديدة لسوس الهويات وادارة الحوارات. عدة قوامها التُقى الفكري، والتواضع الوجودي، والحس النقدي، والعقل التواصلي، ومجموعة من الفاعلين الخلاقين، العابرين للمجتمعات والثقافات أو للطوائف والجماعات.
لا يريد علي حرب في كتابه «تواطؤ الأضداد» استبدال فلسفة بأخرى، بل يبغي التقويض والخلخلة لعباداتنا الفكرية. ويبغي رسم خريطة جديدة لنظام الاقناع، وطريقة الاستدلال، وهو بذلك يجعل من العقل والتعقل والعقلانية مفتاحاً للفهم، ومصنعاً للإمكان.