|
عاصم بدر الدين
القدس العربي - 4 يوليو 2008
بلا أدني شك الحجاب ليس سلاحاً فتاكاً مدمراً للنظام العلماني في تركيا. ولا فرض السفور علي النساء هو فعل يشي بديمقراطية أو بحرية أو باحترام لحقوق الانسان، كذا فإن فرض الحجاب (كما هو حاصل في العديد من البلدان الاسلامية: السعودية ايران كمثال) ليس ديمقراطياً ولا انسانياً. فهو يندرج (أي الحجاب) حصراً في اطار الحريات العامة، من الحرية الدينية الي حرية الاختيار والتعبير، الي الحرية الاجتماعية. وهذا أمر لا جدال فيه، والجميع تقريباً متفقون عليه. كما أن النظرة للعلمانية التركية، من قبل العلمانيين العرب موحدة نسبياً، لأن الصورة التي تجسمها تركيا اليوم للمجتمع العلماني، نقطة سلبية في آلاف النقاط التي يعبث بها الاسلام الراديكالي العربي لتهشيم والقضاء علي العلمانية العربية، لما له من تأثيرٍ في النفوس والعقول العربية.
المشكلة، ليست في العلمانية التركية المتطرفة، انما في الاسلام العربي المماثل لها (أي الاسلام المتطرف). الاسلام في تركيا لا يشبه الإسلام في العالم العربي، لا بل علي النقيض معه. هنا عندنا تيارات وأحزاب وأفكار شمولية سلفية، من الوهابية السنية الي الخمينية الشيعية، وهما وجهان لعملة واحدة رغم كل الخلافات الفقهية والطائفية التي بينهما. الاسلام هناك ثقل ودعم بالديمقراطية والحرية، أما هنا فلا يزال حتي الساعة قمعياً تخريبياً حتي لو ارتدي ولبس مئة قناع وستار.
لكن كيف صار الاسلام التركي علي هذا الشكل؟ وكيف اندمج في الحداثة، والحرية والديمقراطية وهو يسجل فيها انتصارات ويشارك في الحكم؟ هذا السؤال مطروح علي الاعتدال الاسلامي العربي، كما هو مطروح علي العلمانية المعتدلة العربية لأنهما جزئياً في خندق واحد ـ ان صح التعبير ـ وفي معركة واحدة، سعياً لهدف مشترك، ألا وهو: ترقية وتنمية المجتمع العربي وتحديثه. ولا ريب أيضاً أن تجربة أتاتورك العلمانية، علي عسكريتها وقمعها، ومن خلال الانقلابات المتكررة التي تلت فترة حكم المؤسس الأول للجمهورية التركية، هي التي صهرت الاسلام التركي ونقلته من التطرف الي الاعتدال المتمثل اليوم بـ حزب العدالة والتنمية .
هل المطلوب، اذن، انقلاب عسكري؟ طبعاً لا. ما شاهدناه من العسكريتارية العربية لا يشجع ولا يفي بالغرض. المطلوب انقلاب من نوع آخر. انقلاب فكري داخل الحركة الاسلامية العربية نفسها لابعاد السلفيات وتحجيمها، لا بد لنا أن نستعيد أفكار جمال الدين الأفغاني، ومحمد عبده، وعبد الرحمن الكواكبي ورشيد رضا. هذا التحديث الاسلامي، المتأثر نسبياً بالغرب كثقافة حداثوية ديمقراطية تطورية في اطار نظرة عقلانية للدين ساهمت، حين كانت وقتها، في النهضة العربية مع الأفكار العلمانية.
علي الفرق الاصلاحية في الاسلام، أن لا تُحرج من السلفية الاسلامية ولا أن تخاف وترتعب من التكفير (الموضة الاسلامية آنياً) والاتهام بالانحراف، وأن لا تخضع لأفكارها، بل عليها أن تعارضها بشدة. هنا نستذكر ما أشار اليه المفكر الفلسطيني هشام شرابي في كتابه المثقفون العرب والغرب الصادر عن دار النهار، حين قسم العالم العربي في فترة ما اصطلح علي تسميته بـ عصر النهضة (1875 ـ 1914). أشار المفكر الراحل الي انقسام المجتمع العربي، آنذاك، الي ثلاثة تيارات: الأول رديكالي اسلامي، والثاني: اصلاحي اسلامي، والثالث: علماني مسيحي مع قلة قليلة من المسلمين العلمانيين، ويعلل الكاتب هذا لما كانت جذور العلمانية تثير في نفوس المسلمين العرب. هذه المشكلة الأخيرة قد حلت وما عادت تشكل عائقاً، فنحن قادرون علي انتقاء ما يناسبنا من الغرب من حرية وديمقراطية وعدالة ومساواة. لكن المشكلة التي ما زالت مستمرة من تلك الفترة حتي الساعة، هي غلبة الفكر الراديكالي في الاسلام علي الفكر الاصلاحي، وكان التيار الاصلاحي وقتذاك يمر في أفضل حالاته مع تبلور أفكار الأفغاني ولاحقاً أفكار تلميذه الأزهري محمد عبده ومن تلاهما. ومع ذلك سيطر التعصب علي الاعتدال وأحرج ليُخرج الأخير. أما الآن (مرحلة ما بعد 1914 التي لا يشملها بحث الكاتب) فلا شيء تبدل أو تغير الا أن عدد الاصلاحيين قد تضاءل ووهن وبرزت تيارات جماعات وأفكار أكثر سلفية وراديكالية وتكفيرية!
نحن مع الاسلام التركي المعتدل (ضد
العلمانية التركية المتطرفة)، رغم الاختلاف معه في العديد من الأمور،
لكنه يبقي نموذجاً كما يقول الأستاذ جهاد الزين في جريدة النهار. نموذج
للاسلام الذي نريده في عالمنا العربي. ونحن مع الاسلام الاصلاحي العربي
في وجه التطرف والسلفيات لا لما تشكله من خطر كبير علي المجتمع العربي
(مثله مثل الديكتاتوريات العربية غير الدينية من مصر الي سورية
وليبيا... الخ) فحسب، وانما أيضاً علي الاسلام نفسه. فنحن عاجزون عن
الغاء ونفي وجود الاسلام، وهذا ليس هدفنا أصلاً، بل نحن نريد العيش (أو
التعايش) معه لتجذره في الاجتماع العربي، لكن بأقل النسب من التشدد
والتعصب والقمع والظلامية والتطرف والتحجر والتخلف.. فان كان الغرب
المسيحي حقاً هو ضد كل ما هو اسلامي لمجرد أنه اسلامي فان هذا التخلف
الفكري والتصرفات الهمجية لبعض فرق الاسلام، هي التي تقدم الحجج
والبراهين والتوكيدات للغرب علي صوابية موقفه، الكاره والمعادي
للاسلام. أخيراً أقول انه ليس بئس العلمانية التركية، علي (رغم) بؤسها،
انما بئس الاسلام العربي علي رجعيته!