|
رجا بهلول
مجلة العربي الكويتية - أول يناير 2004
يعتقد الكثيرون من المفكرين أن الديمقراطية تستلزم العلمانية, فمن غير الممكن وجود نظام حكم ديمقراطي دون أن يكون هذا النظام متصفا بالعلمانية في الوقت نفسه. يتفق على ذلك مفكرون مختلفون لا يكادون يجتمعون على أمر آخر. بعضهم أصوليون يرفضون الديمقراطية بوصفها سلعة مستوردة, ومنهم ديمقراطيون ليبراليون يرفضون أي محاولة للجمع بين الدين والسياسة.
لا تترك أي قراءة متأنية للكتابات العديدة حول الديمقراطية مجالا للشك في أن مصطلح (الديمقراطية) لا يعبر عن معنى واضح وبسيط. فقد تم ويتم تفسير مصطلح (الديمقراطية) بطرق متباينة. ولا أدل على ذلك من كثرة وتنوع مدارس الفكر الديمقراطي التي نذكر منها الديمقراطية الليبرالية والديمقراطية الاشتراكية, إضافة إلى بعض المدارس التي ترتبط بمفاهيم مثل (تحالفات النخب), (التعددية), (الاختيار الاجتماعي), وغيرها. هذه الأسماء والمصطلحات, إن دلت على شيء, فإنما تدل على أن عناصر ومتطلبات ولواحق العملية الديمقراطية متباينة ومختلف عليها من قبل منظري الديمقراطية أنفسهم.
ولكن على الرغم من التفسيرات المتباينة لمصطلح (الديمقراطية) فإنه بالإمكان التعرف على افتراض أساسي تستند إليه معظم الكتابات والنقاشات الغربية. يفترض معظم الكتاب أن الدين قد أصبح شأنا خاصا لا دخل للمجتمع به, أي أنه علاقة شخصية بين الإنسان وربه. يجري هذا الافتراض كنهر جوفي لا نحس به بصورة مباشرة, دون أن يعني هذا أنه غير مؤثر. ولكن الأمر على خلاف ذلك في الوطن العربي والعالم الإسلامي, حيث يجهد كثير من الكتاب أنفسهم بالدفاع عن الرأي القائل إن الديمقراطية تستلزم العلمانية.
يكاد هذا الرأي يكون بديهيا بالنسبة لعزيز العظمة الذي يعبر عن خيبة أمله في الخطاب العربي الديمقراطي بسبب ندرة الكتابات التي تبرز (ضرورة العلمانية من أجل قيام نظام ديمقراطي أيا كان.) (ديمقراطية من دون ديمقراطيين). كما يمكن الإشارة إلى تحليل المفكر الفلسطيني المعاصر عزمي بشارة الذي يشتق العلمانية من مفهوم الديمقراطية نفسها, قائلا إن الديمقراطية تتطلب حرية الرأي, وهذه حرية لا تقوم خارج الإطار العلماني الذي يكفل لحرية الرأي أن تكون حرية فردية وليست جزءا من الشأن العام. (حول الخيار الديمقراطي).
مفهوم اسلامي للديمقراطية
لم يغب الارتباط المزعوم بين الديمقراطية والعلمانية عن أذهان المفكرين الإسلاميين على اختلاف مشاربهم ومذاهبهم, وبالأخص أولئك الذي يرغبون بتأصيل مفهوم الديمقراطية في العقيدة الإسلامية. يكمن التحدي الحقيقي بالنسبة لهؤلاء المفكرين في تحديد العناصر الأساسية في نظام الحكم الديمقراطي. وبعد أن يتم هذا التحديد, يصار إلى تقرير مدى وطبيعة التعارض القائم (إذا كان هناك تعارض) بين الإسلام والديمقراطية.
سوف نعير جل اهتمامنا لبعض الكتاب الإسلاميين الذين يسعون لتمثل مفهوم الديمقراطية إسلاميا, وذلك من خلال تصور محدد عن (ديمقراطية إجرائية) (procedural democracy) تقف على الحياد بين العلمانية وخصومها, وبالتالي تصلح للاستخدام الإسلامي.
يمكننا صياغة التصور الإجرائي للديمقراطية الذي ينطلق منه هؤلاء المفكرون على الوجه التالي. بادئ ذي بدء ينبغي علينا التمييز بين طريقتين في فهم الديمقراطية. تتلخص الطريقة الأولى في النظر إلى الديمقراطية كعقيدة إجرائية, أي كنهج في التصرف بالسلطة السياسية, بما يشتمل عليه ذلك من انتخابات دورية, وحق الاقتراع العام, واستقلالية مؤسسات المجتمع المدني, وحرية التعبير عن الرأي, لأن هذه هي المحددات التي تميز الأسلوب (النهج) الديمقراطي في التصرف بالسلطة السياسية عن غيره من الأساليب.
أما الطريقة الثانية في فهم الديمقراطية فتتطلب ألا ننظر إلى الديمقراطية كنظام إجرائي وحسب, بل كنظام إجرائي يرتبط بمنظومة من القيم والمعتقدات الفلسفية والروحية والأخلاقية المتعلقة بمعنى وهدف الحياة الإنسانية. نبدأ بهذا الاقتباس من الشيخ راشد الغنوشي الذي يقوم بصياغة التمييز المقترح بصورة لا لبس فيها:
(يمكن لآليات الديمقراطية أن تعمل في مناخات ثقافية وعلى أرضيات فكرية مختلفة. فليست العلمانية والقومية العنصرية وأولوية قيم الربح والنفعية, وتأليه الإنسان (وهي من القيم التي نشأ النظام الديمقراطي في إطارها) حتميات لازمة له بما هو سيادة للشعب ومساواة بين المواطنين وهيئات للحكم منبثقة عن إرادة الشعب عبر انتخابات حرة وتداول على السلطة من خلال الاعتراف بحق الأغلبية في الحكم والقرار. ليس في هذه الآليات ما يتعارض ضرورة مع قيم الإسلام). (الحريات العامة في الدولة الإسلامية).
يوضح هذا الاقتباس أن الديمقراطية في نظر بعض المفكرين الإسلاميين ترتبط مع قيم وممارسات مرفوضة رفضا قاطعا. وعلى رأس قائمة المرفوضات تقف العلمانية, ويأتي من ورائها حشد من القيم والمبادئ الأخرى, مثل المادية والنفعية والارتيابية. لكن نقطة الفتح فيما يتعلق باستيعاب الديمقراطية من قبل المفكرين الإسلاميين تكمن في القول إن الديمقراطية بحد ذاتها لا ترتبط بالعلمانية ارتباطا مفاهيميا, وأن العلاقة بينهما ليست لازمة لزوما منطقيا, وإنما هي علاقة عرضية نشأت في ظروف تاريخية محددة مرت بها المجتمعات الغربية. فبالنسبة للغنوشي فإن الديمقراطية تعني الانتخابات الحرة والمساواة السياسية, وحكم الأغلبية. ولا شيء من هذا يشير إلى العلمانية أو المادية أو الارتيابية أو غيرها من القيم والأفكار المرفوضة.
يعتقد المفكرون الإسلاميون أن أفراد المجتمع الإسلامي راغبون لا محالة في العيش حسب مقتضيات الديانة. لذا فإنهم يرحبون بالانتخابات إيمانا منهم بأن الشعب المسلم سوف ينتخب ممثلين إسلاميين. كما أنهم لا يخشون التعددية السياسية, والتنافس الحزبي, والمناقشات البرلمانية, وذلك من منطلق الأمل الذي يحدوهم بأن المعارضة والتنافس والتعاقب على السلطة وغيرها من الممارسات الديمقراطية سوف تجري في إطار إجماع سياسي على دستور ذي طابع إسلامي. ليس هذا بالأمر المستغرب, ولكنه يحتاج إلى شيء من التوضيح.
لا وجود للمعارضة ولا مكان للتعددية داخل النظام الديمقراطي إلا في إطار إجماع أساسي على قواعد اللعبة السياسية و(فضاء الممكنات) التي تمارس فيه هذه القواعد. ليس هذا كشفا جديدا قام به المفكرون الإسلاميون. فقد سبقهم إلى هذا القول كثير من المفكرين الغربيين. منهم, على سبيل المثال جون إسبوزيتو وجون فول اللذان يقولان إن: (المعارضة المقبولة في سياق الفكر السياسي الغربي الحديث ترتبط ارتباطا وثيقا بمفهوم الحكم الدستوري, حيث يوجد إجماع أساسي على الأرضية التي تستند إليها (قواعد اللعبة) السياسية. والمعارضة هي الاختلاف المشروع حول سياسات محدده لقادة سياسيين محددين, وفي إطار يقبل به الجميع, ويتكون من مبادئ دستور مؤسس, سواء كان مكتوبا أو قائما على أساس الممارسة التاريخية منذ أمد طويل). (الإسلام والديمقراطية)
يوافق الديمقراطيون الإسلاميون على القول إن الممارسة الديمقراطية تفترض إجماعا أساسيا على المبادئ التي يقوم عليها كيان الجماعة السياسية. في حالة المجتمعات الإسلامية, وبالنسبة للمفكرين الإسلاميين ليس هناك شك في أن الدستور الذي (يجب أن) تجري في إطاره الحركة السياسية هو دستور قائم على هدي الديانة. هذا واضح من كلام حسن الترابي, الذي يبدي تفهما كبيرا لمنطق (المعارضة الموالية), كما تشاهد على مسرح السياسة الداخلية في الغرب. يقول الترابي: (الديمقراطيات الغربية المستقرة إنما نعمت بالاستقرار لأن الشعوب عبر تطورها الحضاري والسياسي استكملت بشرط الإجماع على الكليات الهادية وحاصرت الخلافيات التي تدور فيها المشاورات والنيابات, على خلاف ما يقع في البلاد التي لا تؤسس الأشكال الديمقراطية على أي إجماع بل تتنازعها المذاهب. ولو تأملنا الخلاف الحزبي في بلد ديمقراطي غربي لوجدناه مؤطرا بحدود. فالفرق بين حزب المحافظين وحزب العمال في بريطانيا مثلا محدود جدا, والفرق بين الجمهوريين والديمقراطيين في أمريكا محدود جدا). (قضايا الحرية والوحدة والشورى والديمقراطية)
هكذا ينظر بعض المفكرين الإسلاميين إلى الديمقراطية. ما يقترحونه هو الأخذ بالأسلوب الديمقراطي في الحكم وترك العلمانية جانبا. مع ذلك يبقى هناك عدد من الأسئلة التي يجب طرحها والاعتراضات التي يجب معالجتها, مما سوف يساهم في جلاء الصورة أكثر وأكثر بخصوص معنى (الديمقراطية الإسلامية).
حكم الله أم حكم الشعب?
يواجه المفكرون الإسلاميون الذين يرغبون في استيعاب مفهوم الديمقراطية إسلاميا صعوبة تتمثل في تعارض مزعوم بين مفهومين أساسيين: مفهوم الحاكمية الشعبية ومفهوم الحاكمية الإلهية. يقال في هذا السياق إن الديمقراطية تعني (حكم الشعب), وهي تتطلب حكم الناس لأنفسهم من خلال سنن وقوانين ذات مصدر بشري. هذا في حين أن الحكم بموجب الإسلام يتطلب التسليم بحاكمية الله, من خلال الالتزام بالشرع الإلهي المنزه عن كل نقص, والمستقل عن إرادة الناس وآرائهم. وكثيرا ما يرفع المفكرون الأصوليون شعار (الحكم لله) بقصد التعبير عن موقف مناوئ لفكرة الديمقراطية والسيادة الشعبية. هذ ما يفهم من قول سيد قطب (إن كل من ادعى لنفسه حق وضع منهج لحياة جماعة من الناس فقد ادعى حق الألوهية عليهم). وهو أيضا ما قد يفهم من أقوال أقل حدة وتطرفا مثل قول الترابي نفسه إن (الديمقراطية في الإسلام لا تعني سلطة الشعب المطلقة بل هي سلطة الشعب وقفا على الالتزام بالشريعة). (قضايا الحرية والوحدة)
يجد كثير من الدارسين في هذه الأقوال ما يساند اعتقادهم بأن لغة الإسلام السياسية مغايرة تماما للغة السياسية المستخدمة في الفكر الديمقراطي. ماذا بوسع المفكرين الإسلاميين المؤيدين للديمقراطية قوله في معرض الجواب? هناك على الأقل طريقتان للتصدي لهذا الاعتراض.
أولا: عندما يقول بعض المفكرين الإسلاميين إن (الحكم لله), فانهم لا يقصدون القول إن للدولة الإسلامية (رئيسا) من نوع غير مرئي (invisible president), يحكم كما كان يحكم لويس الرابع عشر, يقدم له الوزراء التقارير, ويتسلمون منه التعليمات باستمرار. هذا ما يستنكره الغنوشي عندما يقول: (ليس أحد ممن يرفعون شعار (الحكم لله) يقصد أن الله يتجسد ويأتي ويحكمنا, فالله -سبحانه وتعالى- لا يرى عيانا ولا يحل في أحد أو مؤسسة للنطق باسمه, وإنما (الحكم لله) معناه حكم القانون, حكم الأمة...) (مقاربات في العلمانية والمجتمع المدني)
بالإمكان أن نزيد على اقتراح الغنوشي أو أن نطوره في اتجاهات أخرى لها نصيب أوفر من المصداقية والإقناع. بوسعنا القول إن الحديث عن الحاكمية الإلهية يقصد به القول إن القرارات السياسية لا تكون شرعية أو صائبة لمجرد أن الشعب (بأغلبيته) قد أقرها, بل يتوجب عليها استيفاء شروط أخرى تعرف بالإشارة إلى مبادئ الدين. فإذا وردت المناداة بالحاكمية الإلهية على لسان مفكر إسلامي يبدي استعدادا للقبول بآليات الديمقراطية, وجب الظن أن هذه المناداة لا تعدو كونها رفضا للتوجه الذي يقضي بجعل الشرعية مسألة إجرائية (procedural) بحتة تتطابق تطابقا تاما مع الإجراءات الديمقراطية (انتخاب, تصويت, قرار أغلبية..., الخ).
ثانيا: لا تقتصر الرغبة في رؤية الإرادة الشعبية وقد خضعت (والأفضل طوعا) لجملة من المعايير والقيم التي لا يبدو أنها تستمد شرعيتها من محض الموافقة أو الإقرار الشعبي بها, لا تقتصر هذه الرغبة على المفكرين الإسلاميين وحدهم. فالكثير من أنصار الديمقراطية العلمانية في الغرب يعترفون صراحة بوجود بعض المفاهيم والقيم والمبادئ التي تحظى بشرعية أخلاقية تسمو فوق الموافقة الشعبية والتي ينبغي على العملية الديمقراطية أن تعبر عنها وأن تحترمها. يعترف هؤلاء بأن (حكم الشعب دون قيد أو شرط) لا يحمل في طياته ضمانة باحترام المبادئ والقيم الديمقراطية نفسها. منهم روبرت دال الذي يتخيل وضعا افتراضيا حيث تصوت أغلبية الناخبين لصالح قرار يقضي بحرمان أقلية عرقية أو دينية من حقوقها السياسية, الأمر الذي يقود المؤلف للتساؤل عما (إذا كان يحق للشعب أن يقوم بفعل ما هو قادر على فعله). يجيب المؤلف عن تساؤله قائلا إنه ليس من حق الشعب أن يلغي الحقوق السياسية الأساسية لجزء منه (الديمقراطية ونقادها). وهذا يعني, وبكل بساطة, أن هناك معايير للصواب والشرعية الأخلاقية ليست نابعة من الإرادة الشعبية أو موافقة أغلبية الناخبين, وهو ما يجعل دال قادرا على إصدار حكم ببطلان رأي الأغلبية.
ما هذه المعايير? وما نوع (السلطة) التي تتمتع بها? وأخيرا, ألا تشكل هذه المعايير نوعا من التقييد الذي ينزع الصفة المطلقة عن السيادة الشعبية? لننظر إلى ما يقوله الغنوشي في هذا الصدد, فهو يرى بوضوح أن الفكر الديمقراطي الليبرالي كان يعترف على الدوام بوجود (مبادئ أعلى من إرادة الإنسان)
(كل هذه التجارب المرموقة في مجال الفكر الليبرالي تسلم فعلا بوجود مبادئ أعلى من إرادة الإنسان, سواء كانت هذه الإرادة جماعية أو إرادة الأغلبية. وفي عدد لا بأس به من الحالات ظلت الإشارة إلى الناموس الإلهي صريحة. وبالفعل تدل مبادئ القانون الطبيعي على أن إرادة الإنسان كانت دائما خاضعة لعدد من الأطر المرجعية العالمية دون أن تكون مؤهلة لوضع هذه الأطر موضع التساؤل). (الحريات العامة)
من هذا المنطلق بوسعنا أن نجزم بوجود نقطة التقاء بين الديمقراطيين الليبراليين أنفسهم وأنصار الديمقراطية الإسلامية. فهم يشتركون جميعا في إبداء بعض التحفظات تجاه التصور الإجرائي الصرف للديمقراطية. بالتالي لا ينبغي الظن أن رغبة المفكرين الإسلاميين برؤية (حكم الشعب) وقد خضع لبعض القيود أمر مناقض للديمقراطية. فالمفكرون الليبراليون أنفسهم يقولون بهذا, ولا أحد يشك في تمسكهم بالديمقراطية.
الديمقراطية والتعددية والتسامح
ليس التناقض المزعوم بين الحاكمية الإلهية والحاكمية البشرية الصعوبة الوحيدة التي تعترض طريق الديمقراطية الإسلامية. هناك صعوبات أخرى لا وقت لمناقشتها. ولكن لا بد لنا من التوقف عند اعتراضات محددة هي أقل تجريدا وأكثر إلحاحا من الاعتراضات الفلسفية السابقة. يمكننا تلخيص هذه الاعتراضات على النحو التالي:
من الأمور المتعارف عليها أن الديمقراطية تفترض التعددية وتحميها وتشجعها. ولكن هل من الممكن أن يقبل نظام الحكم الإسلامي بالتعددية, وهل يمكنه فعلا أن يحمي حقوق الذين يختلفون عنه أو ربما ينكرونه? وإذا كان الجواب بالنفي, فأين مكان الديمقراطية الإسلامية من الإعراب? ألا تغدو هذه الفكرة تناقضا ما بعده تناقض?
لنتأمل موقف الغنوشي من المواطنين غير المسلمين في الدولة الإسلامية. يبدأ الغنوشي بالقول إن غير المسلم ممن يوالي الدولة, ويعترف بشرعيتها ولا يوالي أعداءها, فهو مواطن. ولكنه سرعان ما يقول: (ولكن مواطنته تظل ذات خصوصية لا ترتفع إلا بدخوله الإسلام, أي يظل متمتعا بحرية لا يتمتع بها المسلم تتعلق بحياته الشخصية في أكله وشربه وزواجه, محروما من حقوق يتمتع بها المسلم كتولي مواقع رئيسية في الدولة ذات مساس بهويتها. وهي استثناءات محدودة لا تخل بمبدأ المساواة). (الحريات العامة)
لا أعتقد أن محاولة الغنوشي التخفيف من حدة المشكلة مقنعة للغاية, ولا أدري ما الحل النهائي لبعض المشاكل والصعوبات التي تعترض طريق (الديمقراطية الإسلامية). لكنني سوف أقترح بعض (الخطوط الدفاعية) التي يمكن للمفكرين الإسلاميين الوقوف خلفها.
أولا: بوسع المفكرين الإسلاميين القول إن مشكلة التسامح مع المختلفين في العقيدة لا تزال تنتظر الحل بالنسبة لجميع المذاهب والعقائد, ليس بالنسبة للإسلام وحده, وليس بالنسبة للأديان فقط. مشكلة القبول بالتعددية لا تزال تشكل مصدرا للحرج حتى بالنسبة لتصورات ديمقراطية ليبرالية ذات ماض فلسفي مغرق في التسامح وقبول الفروقات. لنأخذ على سبيل المثال نموذج الفكر الديمقراطي الليبرالي الذي يدعو إليه جون رولز. يقول المؤلف: (تفترض الليبرالية السياسية أن العقائد المنتشرة في المجتمع تتسم بالعقلانية ولا ترفض المبادئ الأساسية لنظام الحكم الديمقراطي. بالطبع, قد يحتوي المجتمع على عقائد غير معقولة أو جنونية. في مثل هذه الحالات تكمن المشكلة في كيفية احتواء هذه العقائد بحيث لا يسمح لها بتدمير أركان المجتمع). (الليبرالية السياسية)
يظهر من قول رولز أن للديمقراطية الليبرالية أيضا حدودا. فبموجب قوله علينا أن نسعى لـ (احتواء) تلك العقائد التي تتسم بعدم المعقولية أوالجنون. ولكن ما العقل وما الجنون? ومن بوسعه الادعاء أن لدينا تعريفا لماهية العقل واللاعقل? ليس لدينا مثل هذا التعريف, ولن يكون لدينا أبدا. والتاريخ شاهد على التنوع الشديد في المعتقدات التي تبدو معقولة في زمن ما, وجنونية في زمن آخر.
بالطبع, لا نظن أن فيلسوفا (متحضرا) مثل رولز ينادي بقمع المعتقدات المجنونة أو زج أصحابها في السجن. ولكن الكلام عن (الاحتواء) لا ينم عن التسامح, بل إنه إعلان حرب من نوع ما. لا ريب أن سياسة الاحتواء تبرر السعي لإضعاف هذه المعتقدات بطرق (سلمية), مثل التربية والتثقيف وما قد يعتبره البعض (أساليب دعائية). وفي هذا الصدد لا يختلف رولز عن مفكرين إسلاميين معتدلين ومتنورين من أمثال راشد الغنوشي الذي يدعو إلى إفساح المجال للحركات غير الإسلامية للعمل والوجود, اعتقادا منه أن المجتمع المدني كفيل بتهميشها دون حاجة إلى سلطان الدولة الإسلامية. (الحريات العامة)
ثانيا: بوسع المفكرين الإسلاميين القول إن هناك تفسيرات متباينة للإسلام, منها الأصولي ومنها الليبرالي ومنها الوسطي المعتدل. فعبدالله النعيم الذي ينادي بإصلاحات جذرية في نظام الشريعة, بحيث يتم الاستغناء عن إعمال الآيات القرآنية المدنية لأغراض التشريع (نحو إصلاح إسلامي) ليس مثل الغنوشي, والأخير بدوره ليس مثل سيد قطب. إذن قبل القول إن نظام الحكم الإسلامي لا يمكن أن يكون متسامحا أو تعدديا, يجب علينا أن نبين عن أي إسلام نتحدث, ومن أي مفكرين إسلاميين نقتبس الأقوال. هناك تفسيرات متسامحة وتعددية للإسلام, وليس هناك ما يمنع الإسلاميين الديمقراطيين من الأخذ بها.
مهما يكن الأمر, ودون استباق الإمكانات المتعلقة بتفسير الإسلام, لا بد لنا من الاعتراف بالحقيقة التالية: من الجائز ألا يتوصل أفراد يعيشون في بقعة جغرافية معينة إلى إجماع على تصور موحد لقواعد اللعبة السياسية أو تفسير للإسلام أو لمعنى المواطنة. ما المخرج في مثل هذه الحالة? لا تستطيع الديمقراطية (بحق) التعايش مع وجود درجات متفاوتة من المواطنة. والأديان بدورها لا تسمح بالتفسيرات خارج كل الحدود. من المرجح أن هناك تفسيرات للإسلام لا ترقى إلى كونها تفسيرات للإسلام. هل يعنى هذا أنه لا أمل هناك في ممارسة الديمقراطية بطريقة إسلامية?
لا أتصور حلا يحافظ على الديمقراطية والدين في الوقت نفسه سوى الحل الذي يقضي بالتفريق السياسي والسيادي بين الجماعات المنقسمة جذريا, وغير القادرة على الالتقاء على قاسم مشترك من المبادئ والقيم. تنفصل الجماعة غير المتوائمة إلى جماعات سياسية مستقلة, لكل منها طريقتها الخاصة في تعريف نفسها وتحديد هويتها ودستورها في وطنها المستقل. وحسب التصور الإجرائي للديمقراطية, من الممكن أن يتسم النظام السياسي لدى كل من هذه الجماعات السياسية بصفة الديمقراطية, على الرغم من البون الشاسع في أسلوب الحياة والقيم السائدة, التي تشكل بمجموعها (فضاء الممكنات) بالنسبة للأفراد (بما في ذلك العلمانية, أو الإسلام أو الهندوسية أو فلسفة كانط أو غيرها). وهذا هو خط الدفاع الثالث والأخير الذي يمكن للمفكرين الإسلاميين سلوكه لدرء التهمة المتعلقة بعدم التسامح والقبول بالتعددية.
لقد حاولنا التعريف بمفهوم الديمقراطية لدى بعض المفكرين الإسلاميين والذي يتمحور حول محاولة فصل الديمقراطية عن بعض المعتقدات التي ارتبطت بها تاريخيا, وبالأخص العلمانية. يظهر لنا مما تقدم أن الديمقراطية الإسلامية ممكنة على الأقل نظريا, حيث إن الاعتراضات التي يقدمها المعارضون لا تصمد أمام الامتحان.