|
ملحق
ثقافي
كانوا أول من رفض الحداثة،ولطالما أوغل التيار الأكثر نفوذا في الفكر الحديث،من دور كهايمر وأصدقائه من مدرسة فرانكفورت إلى ميشيل فوكو، في نقد الحداثة وهو ما أدى إلى عزل المثقفين عزلا تاما في مجتمع كانوا يصفونه باحتقار بأنه مجتمع الجماهير. ومع أن الغالبية العظمى من المفكرين الذين عملوا على تشريح الحداثة وما بعدها أقروا بأنها نشأت ثم تبلورت في شرط تاريخي تمثل بتصاعد التفاوت الطبقي والتهميش السياسي والسوسيو- ثقافي،إلا أنهم يقرون في الوقت نفسه أنها تحولت – شيئا فشيئا – إلى أداة قامعة لضحايا ذلك التفاوت وهذا التهميش وأخرجتهم بدرجات مختلفة من دائرتهم وألحقتهم بدائرة “اللا عقلانية “و”اللا تقدم”و”التشاؤم التاريخي”و”اللا علم”،وربما كذلك وبمعنى محدد”اللا تاريخ- التاريخ ما قبل الرأسمالي “.
بل لعلنا نقول إنه بفضل التاريخ ما قبل الرأسمالي الحداثوي الآخذ في التوحش والهمجية تخرج تلك “الضحايا” من التاريخ الذي أنتجته هي وقام هو على أكتافها.وهكذا تبرز الحداثة_حسب رؤية طيب تيزيني- وكأنها تحولت إلى أخطبوط شرع في التهام صانعيها “من تحت”إضافة إلى تشتيت منظّريها والحاصدين لثمارها من الطبقات العليا ،وذلك بوضعهم وجها لوجه أمام “انحرافاتها”.ولعل هذا هو السبب الذي دفع بـ”جان شينو” إلى إدانة تلك الحداثة التي اخترقت المجتمع الفرنسي وجعلت منه إمّعة تنتزع منها “هويتها وذاتيتها وأصالتها”.وإذا كان ما سبق من كلام قد وضع الخطوط العريضة لمصطلح الحداثة بمعناه ونشأته ،فإن مصطلح ما بعد الحداثة بتشعباته وانعكاساته يبدو أكثر إشكالا واستعصاء على التحليل الدقيق والبحث العميق القادر على الحفر حول جذور هذا المصطلح . في حفره حول جذور المصطلح وتفسيره له يرى الباحث المصري الدكتور عبد الوهاب المسيري أن مصطلح ما بعد الحداثة مصطلح نفسي سلبي،
وهو ترجمة لمصطلح Post-modernism أو Postmodernism.وقد تستخدم كلمة Post modernity للدلالة على الشيء نفسه .وأحيانا يطلق على مصطلح ما بعد الحداثة تعبير ما بعد البنيوية باعتبار أن فلسفات ما بعد الحداثة قد ظهرت بعد ظهور وسقوط (الفلسفة البنيوية).ولما كان مصطلح ما بعد الحداثة يكاد يترادف ومصطلح (التفكيكية) فقد أراد المسيري،في الحوارية التي شاركه فيها التونسي فتحي التريكي وأصدرتها دار الفكر السورية، التمييز بين كلا المصطلحين.فـ (ما بعد الحداثة) هي الرؤية الفلسفية العامة،أما (التفكيكية)فهي بالمعنى العام أحد ملامح هذه الفلسفة وأهدافها.إذ إنها تقوم بتفكيك الإنسان ،كما أنها منهج لقراءة النصوص يستند إلى هذه الفلسفة.مؤكدا في الوقت نفسه على أن هذا المصطلح يكتسب أبعادا مختلفة بانتقاله من مجال إلى مجال آخر ،فمعنى (ما بعد الحداثة ) في عالم الهندسة المعمارية يختلف ،من بعض الوجوه ،عن معناه في مجال النقد الأدبي أو العلوم الاجتماعية.وعالم ما بعد الحداثة ،كما يراه المسيري ، ليس نظاما حركيا منفتحا ذا مركز وغاية وتراتب هرمي _ مثل عالم التحديث _ ، ولا هو بعالم مغلق يحاول الانفتاح مثل عالم الحداثة وأن يفرض ترتيبا هرميا ذا معنى ..وإنما هو نظام لا مركز له،مكون من نظم صغيرة مغلقة ،يدور كل منها حول مركزه وحول نفسه،ويأخذ شكل صور متجاورة لكل معناها المستقل ،لا يربطها رابط ولا توجد أية صلة بينها،ولا توجد علاقة سببية واضحة،فكل إنسان يدرك الصورة القريبة منه. . من جهته يرى الباحث التونسي الدكتور فتحي التريكي أن حركية ما بعد الحداثة قامت على تدمير قواعد ثلاث،كانت تتأسس عليها الحداثة،من حيث هي فكر وتوجه أيديولوجي تنويري وهذه القواعد هي: الذات:نعرف أن الحداثة قد بنيت على الوعي بالذات،عندما حددت نظرة الذات العاقلة إلى نفسها ذاتيتها الأولية والمركزية من خلال عملها التفكيري المتواصل ، وتحويل الذوات الأخرى إلى مواضيع يتسلط عليها العقل العلمي ،ما هو إلا نتيجة لذلك.هذه الإشكالية هي التي بنى عليها ديكارت تأملاته،ولايبينتز عقلانيته الصارمة،وهيوم وكانط نقديتهما الإمبيرية (بالنسبة للأول) و التأسيسية بالنسبة للثاني. الحقيقة: فقد ارتكز الفكر في علاقته الشائكة بالوجود على محاولة إقرار الحقيقة الدائمة النهائية.لذلك اتجه العصر الكلاسيكي إلى العقل وصرامته،ليبين لنا كيف تتجلى الحقيقة .وجاءت فلسفة الطريقة (عند ديكارت وعند لايبينتز) استتباعا لذلك ثم كيف يمكن للخطأ أن يوجد في عالم يهيمن عليه العقل.فكان لابد من إرساء قواعد للخطاب العلمي لكي تتجلى لنا حقيقة الأشياء وكان لابد من الابتعاد عن الذاتية لتأسيس القول من خلال آلياتها التي اتبعها العقل في عملية إقصائه للخيال واللا متجانس . الوحدة:مركزية الذات وضرورة الحقيقة المطلقة قد عالجتا قضية وحدة الوجود بمنطق يتضمن الوصول إلى توحيد كل مجالات الفكر والعمل. ونحن لا نتحدث هنا عن وحدة العقل فقط،ولاعن وحدة المصير،بل عن تلك الوحدة الأنطولوجية التي ما انفكت الفلسفة ابتداء من بارمنيدس إلى ديكارت وكانط، تؤكدها وتبحث عن معطياتها ومقوماتها. ويذهب التريكي إلى أن المعقولية الغربية في عصر الحداثة وما بعدها،لم تنتج العلوم والتكنولوجيا فقط ،بل أقامت أيضا منطقا جديدا يقوم على الإقصاء والاستبعاد والتقتيل،كما بين ذلك (ميشال فوكو)، إذ ستؤدي هذه العقلانية إلى إقرار للإنسانية لا محالة،ولكن هذه الإنسانية ستأتي مشطورة ذات قطبين،إنسانية محبذة يعمل العقل في تمظهره الغربي على تطويرها والدفاع عنها،وإنسانية أخرى منبوذة، يمكننا في أحسن الأحوال_تركها جانبا،إذا لم يقم هذا العقل بإفنائها وتصفيتها،وإبادتها إن اقتضت الضرورة لذلك. إن نعت المسيري لفلسفة ما بعد الحداثة بأنها فلسفة الهامش، وأخذه على هذه الفلسفة استبعادها للمرجع والمركز ،لأن كل شيء سيصبح ممكنا فيمكن لهؤلاء أن"يحتسوا أفخر الخمور،ويضاجعوا أجمل النساء والغلمان،كما فعل الرومان(...) وكما يفعل الوثنيون العدميون،عندما يشعرون بالعدمية المطلقة عليهم". قلت: إن نعته ذاك وإعابته تلك يتوافقان، وإلى حد كبير،مع مواقف بعض المفكرين الغربيين الذين رأوا في الحداثة ومجتمعها بعض الإيجابيات إلا أن السلبيات فيها كانت كثيرة،ولا أحد يستطيع أن ينكر أنها أساءت إلى المجتمعات بما فيها المجتمع الغربي الذي اعتقد أنها ستنتشله من مشاكله ،ولهذا فإن هؤلاء المفكرين لم يجدوا مانعا من نقد السلبيات الكثيرة التي أتت بها الحداثة و الحداثيون.فـ"جان شيسنو"مثلا ،وهو مؤرخ فرنسي معروف يرى أن كل شيء تشيأ في مجتمع الحداثة. ومع أن الناس يتمتعون بمختلف وسائل الترفيه والاستهلاك، إلا أنهم فقدوا مبادرتهم الشخصية والفردية،وتحولوا إلى سلع تَستهلك وتُستهلك في الوقت ذاته.فلكي تعيش الحداثة ينبغي أن تعمل ثماني ساعات في اليوم.عليك أن تخرج من بيتك في الساعة السادسة والنصف،وتندس في المترو المزدحم بالأجساد وتصل إلى عملك وأنت تلهث ،ثم تخرج في الساعة الثانية عشرة للغداء وشرب القهوة،ثم تعود إلى العمل من جديد وتستمر فيه حتى الخامسة أو السادسة مساء،ثم ترجع إلى بيتك في ميترو مزدحم مثل السابق أو أكثر.ثم تراقب التلفزيون قليلا وتلوي عنقك وتنام.إن المعادلة :"مترو ، عمل ، نوم"تلخص وحدها الحياة الباريسية الحديثة.ولكي تعيش حياة الحداثة،ينبغي أن تفعل مثل كل الناس،فتخرج عندما يخرجون ،وتنام عندما ينامون...كل شيء مرتب للأسوأ أردت أم لم ترد.ويكفي أن تحرك رجليك ويديك وفمك وبقية أعضائك في أوقات محددة، لكي تنسجم مع مجتمع الحداثة،مع إيقاع الحداثة... وفي نقده للمفكرين الما بعد حداثيين يرى أرنست غيلنر أنهم يقبعون في حلكة تحجب عنهم حالتهم وموقعهم،لأنهم بوصفهم ما بعد حداثيين،ملتزمون إلى أبعد حد بعقيدة الولع والتقلب،التي من أجلها تكون حتى أشياء مثل حالتهم ذاتها،غير مستقرة،وبدون هوية،ولا يمكن اعتبارها مواضيع وأهدافا للتفكير المستدام.وبالرغم من هذا كله فإن المتابع لأحوال الثقافة والفكر في العالم العربي يصاب بالذهول والحيرة،نتيجة الانبهار،اللا معقول ،للعقل العربي ،بالثقافة والحضارة الغربيتين،ذلك أن العقل العربي لم يكن في يوم من أيام اتصاله بالثقافة والحضارة الغربيتين أكثر انبهارا بهما مما هو اليوم،ومنذ بداية الثمانينيات على وجه التحديد،وهو انبهار أعمى الحداثيين العرب عن إدراك الاختلافات،من ناحية،ودفعهم،بسبب إيمانهم بضرورة تحقيق قطيعة معرفية مع الماضي كشرط لتحقيق الحداثة،إلى احتقار التراث من ناحية ثانية،ثم الوصول بالتبعية الثقافية للغرب إلى أبعد نقطة فيه من ناحية ثالثة.وهو ما جعل العقل العربي منفعلا وليس فاعلا. إن الحداثيين العرب نسوا أو تناسوا أثناء ارتمائهم في أحضان الثقافة الغربية أن المخابرات الأمريكية الـ "CIA"كانت تمول أنشطة ثقافية مختلفة ومتباينة أحيانا ،ومن بينها مدارس الحداثة المختلفة،في دول عديدة من العالم!"لم نكن نعرف"،سوف يسارع الحداثيون العرب إلى القول.لكن الواقع أن الإنسان الذي يعطي نفسه مسؤولية قيادة فكر أمة في فترة تاريخية حاسمة،كتلك التي تلت هزيمة 67،واجبه أن يعرف حقيقة ماحدث .فقد كانت الشواهد موجودة ومعلنة في الجامعات الأمريكية منذ أواخر الستينيات،أي قبل صدور الدراسة المطولة والموثقة للباحثة البريطانية "فرانسيس سوندرز"تحت عنوان: من الذي دفع أجر العازف؟دور المخابرات الأمريكية في الثورة الثقافية(1997)بثلاثين عاما على الأقل. إن مجتمعاتنا العربية والإسلامية، ومنذ صدمة الحداثة الأولى، تعاني الشيزوفرينيا في كل شيء. هناك ثنائية التعليم التقليدي والتعليم الحديث، الاقتصاد التقليدي القائم على الصناعات الحرفية والوطنية، والصناعات الحديثة القائمة على المستورد الأجنبي، وهناك العلائق الاجتماعية، التي تتحكم فيها القيم المتوارثة، والعلائق الاجتماعية التي تحررت من تلك القيم، وجعلت نمط العلائق الحديثة أنموذجا يحتذى. وهكذا بقية المجالات والجوانب. فهذه الازدواجية الشاملة التي تعيشها مجتمعاتنا العربية والإسلامية،هي وليدة التعاطي المغلوط مع مفهوم الحداثة وما كان هذا التعاطي المغلوط ليكون لو أحسن المفكرون العرب التعاطي مع الحداثة وما بعد الحداثة ،أما وقد حدث ما حدث فإن المسؤولية الملقاة على كاهل المفكرين العرب أخذت بالتزايد فهل سيكونون أهلا لهذه المسؤوليات الجسام الملقاة على عاتقهم أم تراهم سيتركون الحبل على الغارب مديرين ظهورهم لكل ما أصاب الفكر والعقل العربيين؟!!!. |
|