يعود بروز حلم النخبة الفكرية
والسياسية العربية - في سبيل بناء الدولة المدنية، القائم
على المؤسسات الدستورية، واحترام الحريات، وحقوق المواطن -
إلى قرن ونصف، أي منذ أن تحدث عنها رفاعة رافع الطهطاوي في
وصيّته الفكرية «المرشد الأمين».
لا مناص في هذا الصدد من الإشارة بسرعة إلى
الجذور:
- أطلق شيخ رفاعة العالم الأزهري حسن العطار
(1766 - 1835) في مطلع القرن التاسع عشر صيحة الفزع
قائلاً: «إن بلادنا لا بد أن تتغير أحوالها، ويتجدد بها من
المعارف ما ليس فيها»، وصدع بعد قرن من ذلك، أي في مطلع
القرن العشرين شيخ آخر من شيوخ الاستنارة والتجديد الديني،
هو الإمام محمد عبده (1848 - 1905)، إذ قال: «إذا صدر قول
من قائل يحتمل الكفر من مائة وجه، ويحتمل الإيمان من وجه
واحد، حُمل على الإيمان، ولا يجوز حمله على الكفر».
وكتب في الفترة ذاتها معاصرُه ومجادلُه فرح
أنطون (1874 - 1922) ذودا عن قيم الدولة المدنية يقول: «لا
مدنية حقيقية، ولا عدل، ولا مساواة، ولا أمن، ولا ألفة،
ولا حرية، ولا علم، ولا فلسفة، ولا تقدم في الداخل إلا
بفصل السلطة المدنية عن السلطة الدينية».
ويطرح نفسه علينا سؤال جوهري: كيف الوضع في
المجتمع العربي الإسلامي بعد مرور قرنين على صيحة الشيخ
حسن العطار، وقرن على مقولتي محمد عبده، وفرح أنطون؟ ويمكن
طرح السؤال بصيغة أخرى: لماذا لم يتحقق الحلم الذي غرس
بذرته الأولى الشيخ رفاعة عندما تحدث في رحلته «تخليص
الإبريز في تلخيص باريس» عن الدستور الفرنسي، أو «الشرطة»
كما يسميه، وعن الحقوق الطبيعية، وعن العدل، وعن مناخ
الحريات في باريس، وبخاصة حرية الصحافة والنشر، وعندما
أكّد واعيًا، هادفًا أنه قرأ مؤلفات جان جاك روسو، ولاسيما
«العقد الاجتماعي»، وكذلك «روح الشــرائع» لمونتسكيو،
وأولى عناية لمؤلفات جان جاك بورلماكي، وفولتير، ثم أعلنه
فرح أنطون (1874 - 1922) واضحًا، صريحًا بعد نصف قرن من
ذلك في مجلته «الجامعة»، وأعني حلم بناء الدولة المدنية
القائم على المؤسسات الدستورية، واحترام القانون، وصيانة
حقوق المواطن؟
لماذا لم تنجح حركات التنوير العربية في
مختلف مراحلها التاريخية في إرساء أسس الدولة المدنية،
وبقيت النظرية بعيدة عن التطبيق منذ منتصف القرن التاسع
عشر حتى مطلع القرن الحادي والعشرين؟
ولماذا بقي جل حاملي لواء الفكر التنويري
العربي - منذ عصر الشيخ رفاعة حتى اليوم - يركضون وراء
الركب السلطاني، ويسبّحون أناء الليل وأطراف النهار بحمد
«ولي» النعم، كما اعتاد أن يطلق الطهطاوي على حاكم مصر
بأمره يومئذ محمد علي (1805 - 1848)؟
من أهداف هذا النص محاولة الإجابة عن هذا
السؤال.
المثقف والسلطة
إن إشكالية علاقة المثقف بالسلطة في المجتمع
العربي الإسلامي مرتبطة - وثيق الارتباط - بتاريخ تيارات
الفكر الإسلامي، وهي إشكالية مطروحة اليوم. نجد لمسألة
علاقة المثقف بالسلطة صدى في كثير من المجتمعات، وبخاصة في
المجتمعات التي سيطرت عليها بالأمس - أو تسيطر عليها اليوم
- نظم استبدادية، وقد اكتسبت خطورة ذات شأن في البلدان
الغربية منذ عصر الأنوار، لاسيما في القرنين التاسع عشر
والعشرين، ولايزال الجدل قائمًا في صفوف النخبة المثقفة
الأوربية حول قضية محورية وشائكة، تتمثل في محاولة الإجابة
عن السؤال التالي: كيف استطاعت نظم استبدادية قامعة اشتهرت
بمجازرها ضد الشعوب مثل النازية، والفاشية، والستالينية
بالأمس، والصهيونية اليوم، أن تجد في صفوف «المثقفين» من
يؤيّدها، ويحاول تبرير سياستها فكريًا باسم شعارات مختلفة؟
لعلاقة المثقف بالسلطة سمات عامة، ولكنها
تتميز بميزات خاصة في البلدان العربية، وهذه الميزات نفسها
تختلف وتتغير من بلد إلى آخر، ومن مرحلة تاريخية إلى أخرى.
وأميل إلى الاعتقاد بأنه لا يمكن فهم كثير من
معطيات حركة الاستنارة العربية، إذا لم تحظ هذه القضية بما
تستحقه من عناية وتمحيص، وأكتفي بالإلماع هنا إلى أننا نجد
فئتين أساسيتين ضمن زمرة رواد الحركة التنويرية العربية:
أ- فئة أولئك الذين كانوا في عصرهم دعامة
أساسية من دعائم الحكم المطلق الاستبدادي مثل الطهطاوي،
وخير الدين، وعلي باشا مبارك (1827 - 1893)، ومدحت باشا
(1822 - 1883). فهل اعتقدوا أنهم قادرون عبر نشر أفكارهم
الإصلاحية على إصلاح النظام من داخل السلطة؟ ذلك ما سنراه
في ملاحظة لاحقة.
ب- فئة ثانية كانت معارضة للسلطة، وأصابها
بسبب مواقفها الإصلاحية التحررية عنت شديد مثل الأفغاني،
وولي الدين يكن، وسليم سركيس.
أرى أنه لا يتأتّى فهم الحركات الإصلاحية
العربية، فهمًا شاملاً ودقيقًا إلا إذا نزلت في ظروفها
الموضوعية مكانًا وزمانًا، وتشغل السياسة حيزًا بارزًا ضمن
هذه الظروف الموضوعية، وهنا تتنوع المواقف - بل قل تتباين
- فقد رأينا فئة من رواد الاستنارة حاولت الإصلاح من داخل
السلطة عندما قدمت في مؤلفاتها أنموذجًا للسلطة السياسية
في ديار الآخر المتقدم: الغرب من جهة، وعندما سعت في تأسيس
نظام تعليمي عصري، قصد تخريج جيل جديد من المتعلمين
المستنيرين من جهة أخرى، وهنالك الفئة الثانية، التي أدركت
أنه لا أمل في الإصلاح، ولا في التحديث الحقيقي دون
البداية بالإصلاح السياسي الهادف أساسًا إلى القضاء على
الحكم المطلق الاستبدادي، وتأسيس نظم دستورية جديدة،
وتحويل نظم «الملك المطلق»، إلى «ملك مقيّد بقانون»، حسب
تعبير ابن أبي الضياف، على غرار النظم الملكية الدستورية،
التي عرفتها البلدان الأوربية في القرن التاسع عشر، وبخاصة
فرنسا، بل ذهب بعض أنصار هذا التيار إلى ضرورة الثورة ضد
هذه النظم إن لزم الأمر، كما عبّرت عن ذلك الرؤية السياسية
الفكرية للثورة العرابية.
وأودُّ الإشارة في هذا الصدد إلى فئة أخرى
فرّت من السياسة بعدما اكتوت بنارها، وركّزت على التوعية
عبر نشر التعليم والمعرفة، ويعد الشيخ محمد عبده من أبرز
ممثلي هذه الفئة، فقد لعن «ساس» و«يسوس»، وقد أصبح من
المعروف أن موقف الشيخ هذا كان من أبرز أسباب الفرقة بينه
وبين أستاذه الأفغاني.
السؤال الكبير الذي يطرح نفسه في هذا الصدد
هو: هل كان أنصار الفئة الثانية مدركين أنه لا يمكن أن
يتحقق التقدم، وأن تؤتي إصلاحات ذات طابع تحديثي أكلها في
ظل نظم سلطوية استبدادية؟ وأن الحل يبدأ بالإصلاح السياسي،
كما تفطن إلى ذلك خير الدين «حكيم السياسة» كما يسمّيه
الشيخ رفاعة؟ القضية طرحها رواد الاستنارة العربية بالأمس،
ومطروحة على النخبة الفكرية والسياسة العربية اليوم.
العامل السياسي
أدرك الطهطاوي أهمية العامل السياسي، دون
ريب، وقد جاء اعتناؤه بكتابي «العقد الاجتماعي» لروسو،
و«روح الشرائع» لمونتسكيو نتيجة هذا الإدراك، ولكن العامل
السياسي اكتسب بُعدًا آخر في كتاب «أقوم المسالك» لخير
الدين، فقد تفطن أن تقدم الإفرنج في المعارف ناتج «عن
التنظيمات المؤسسة على العدل والحرية»، ويستعمل في مرة
أخرى مفهوم «العدل السياسي»، إذ يقول: «وإنما بلغوا - يعني
الممالك الأوربية - تلك الغايات والتقدم في العلوم
والصناعات بالتنظيمات المؤسسة على العدل السياسي». فلا
تكفي - إذن - تنظيمات، ومؤسسات دستورية صورية، فلابد أن
تكون ممثلة تمثيلاً حقيقيًا، وأن تكون لها رقابة على
السلطة التنفيذية، ويستعمل خير الدين في هذا السياق مفهوم
«الاحتساب على الدولة»، وهي وظيفة البرلمان، ويسميه مجلس
الوكلاء، و«مجلس الوكلاء المركب ممن ينتخبهم الأهالي
للمناضلة عن حقوقهم، والاحتساب على الدولة»، ولابد من أن
تكون الحكومة مسئولة أمام البرلمان، وله حق سحب الثقة من
أعضائها، و«لا يمكنهم البقاء في الخدمة إلا إذا كان غالب
أعضاء مجلس الوكلاء موافقًا على سياستهم».
فقد أدرك صاحب «أقوم المسالك»، ومعه زمرة من
رجال الإصلاح في النصف الثاني من القرن التاسع عشر، أن
الأوضاع لا يمكن أن تتغيّر، وأن يخطو المجتمع العربي
الإسلامي خطوات ثابتة فوق درب الحداثة الحقيقية دون تغيير
الأوضاع السياسية، وبعث مؤسسات دستورية قائمة على العدل
السياسي والحرية، فليس من الصدفة أن يقف خيرالدين وقفة
طويلة عند مفهوم الحرية، ودورها فيما حققه المجتمع الأوربي
من تقدم، ولا غرو في ذلك، وهو الذي لمس عن كثب ويلات الحكم
المطلق الاستبدادي وآثاره الوخيمة، مؤكدًا «أن الحرية هي
منشأ سعة نطاق العرفان والتمدن بالممالك الأورباوية»،
فتحدث عن الحرية الشخصية، وعن الحرية السياسية، وعن حرية
النشر والتعبير، وعن علاقة الحرية بالاقتصاد، مستنجدًا
بابن خلدون في المقدمة في إبراز علاقة الحكم الاستبدادي
بخراب العمران.
ونتساءل اليوم، ونحن في مطلع القرن الحادي
والعشرين: أحاملو لواء خطاب الحداثة، واعون لخطورة العامل
السياسي في تحقيق مشروع التحديث العربي، أو فشله؟
كثير منهم واعون ذلك، دون ريب، ولكن من
الغريب أن نجد اليوم في أدبيات فكر فئات من المثقفين
العرب، غياب هذا العامل عندما يتحدثون عن معوقات مشروعات
التحديث العربية.
إن جميع التجارب العربية والدولية قد برهنت
بوضوح أن جميع مشروعات الحداثة التي لم يتزامن فيها
التحديث السياسي، أي تحوّل الدولة من دولة استبدادية
قامعة، إلى ليبرالية ديمقراطية هي مشروعات مشوّهة ومجهضة،
ومن الطبيعي أن تسقط، طال الزمن، أو قصر.
إن حديث خير الدين عن «العدل السياسي» وعن
مراقبة برلمان منتخب لأعمال الحكومة، واحتسابه على الدولة،
وكذلك حديثه عن الحريات العامة يُسقط نظرية «المستبد
العادل» ومن المعروف أن كلا من الطهطاوي، والشيخ عبده من
أنصار هذه النظرية، وهي متناقضة تمامًا مع مفهوم الحداثة
السياسية باعتبارها الأس المتين للدولة المدنية.
على الرغم مما تبدو عليه مقولة «المستبد
العادل» من تجديد عصرئذ فإنها تبقى مشدودة إلى الماضي،
وإلى تراث الفكر السياسي للدولة السلطانية.
مأزق التيار التنويري
إن أنصار التيار التنويري الذين يمثلهم
الطهطاوي، ثم من بعده الشيخ عبده، وقد قادا معركة التجديد
في مجاليْن خطيرين - المجال الديني والسياسي - قد وجدوا
أنفسهم بين المطرقة والسندان، مطرقة سلطة سياسية استبدادية
متخلفة، وسندان المحافظين من شيوخ النقل الببغائي، أو
بتعبير عبدالرحمن الكواكبي في كتابه «طبائع الاستبداد»:
مطرقة العلماء الغفل الأغبياء، وسندان الرؤساء القساة
الجهلاء. وما أشبه الليلة بالبارحة على الرغم من الفاصل
الزمني الطويل، فإن أنصار الحداثة والتقدم في الوطن العربي
يجدون أنفسهم اليوم بين مطرقة نظم سياسية قامعة ومتخلفة،
وسندان موجة الردة والرداءة، وعلى الرغم من التناقض
الأساسي بين القوتين في جل الحالات فإن تأثيرهما السلبي
يصبّ في نهاية المطاف في مجرى واحد: مجرى التخلف، ومعاداة
الدولة المدنية الحديثة بمؤسساتها الدستورية الحقيقية،
وقيمها الحداثية، وقد برهنت جميع التجارب العربية المعاصرة
على أنه لا تقدم من دون إقامة هذه الدولة.
طرح بعض المفكرين العرب المعاصرين السؤال
التالي: لماذا ينتكس التنوير؟ وهو سؤال ينطلق دون ريب من
محاولة فهم أسباب موجة الردة التي طغت على الفكر العربي
الإسلامي في الربع الأخير من القرن الماضي، فلم تعرف مراحل
تاريخ الفكر التنويري المختلفة، منذ الشيخ رفاعة إلى طه
حسين موجة الرداءة التي سيطرت على الفكر العربي المعاصر في
جل الأقطار العربية، وأمّل التنويريون أن تتحول الفضائيات
العربية - بعد تطوّر وسائل الاتّصال الحديثة - إلى منابر
لفكرة الاستنارة والتقدم، ولكنها بالعكس، فقد تحولت في جل
الحالات إلى منابر لنشر الفكر السطحي الرديء، أو الغيبي
الأسطوري في المجالين الديني والثقافي، وإلى فرض الرأي
الواحد، وتصنيم الحاكمين بأمرهم في المجال السياسي.
إن أسباب انتكاس التنوير متعددة ومتنوعة، دون
ريب، ولكن السبب الجوهري يبقى في نظرنا غيابُ الدولة
المدنية الحديثة، القائمة على مؤسسات دستورية لا تتأثر
بأهواء الحكّام ومصالح بطانتهم، بل بلغ الأمر في بعض
الحالات العربية إلى حد غياب الدولة بالمعنى الحديث،
لتعوّضها جماعات متنفذة سياسيًا واقتصاديًا، وأصبحت تتحكم
في مصير شعوب بأسرها، هُمش أصحاب الكفاية، وصمت أصحاب
الأصوات الحرة لما عمّ الاختناق، فليس من باب الصدفة أن
يكون التنويريون العرب المعاصرون القادرون على الإصداع
برأيهم بجرأة ودون خوف من قطع الأرزاق والرقاب هم أولئك
الذين يعيشون في بلاد الهجرة، وقد تفطن الكواكبي قبل قرن
بالضبط إلى العداوة بين المعرفة وأهلها من جهة، والنظم
الاستبدادية من جهة أخرى، فالحرب بينهما دائمة ومستمرة،
ذلك أن أصحاب الفكر يسعون إلى نشر المعرفة، وترسيخ أسس
الفكر العقلاني التنويري، ويجتهد الجلاوزة إلى إطفاء نوره
لما قال: «والغالب أن رجال الاستبداد يطاردون رجال العلم،
وينكلون بهم، فالسعيد منهم من يتمكن من مهاجرة دياره، وهذا
سبب أن كل الأنبياء العظام عليهم الصلاة والسلام، وأكثر
العلماء الأعلام، والأدباء النبلاء، تقلبوا في البلاد،
وماتوا غرباء».
وأودّ القول في هذا الصدد، ونحن نحاول فهم
أسباب انتكاس التنوير: إن الأخطر في راهن كثير من
المجتمعات العربية ليس الانهيار، وإنما تمويه الانهيار.
وتجد السلطة في صفوف «المثقفين» من يتحدث عن التحديث
والتقدم في مناخ تسيطر عليه الرداءة، والردة الفكرية
والسياسية، ولاشك أن فقهاء الأحكام السلطانية الذين برروا
الخلافة الوراثية، ونظروا للإقطاع العسكري، وللنظم
الاستبدادية أكثر حذرًا، وأشد من هذه الفئة من «المثقفين»
اللاهثين وراء الركب السلطاني.
ظنت النخب السياسية والفكرية التي خاضت معارك
التحرر العربي أن الدولة الوطنية التي ستقوم غداة
الاستقلال، ستحقق حلم أجيال من التنويريين العرب، في بناء
الدولة المدنية الحديثة، التي تسندها قوى مجتمع مدني
ليبرالي حر، ولكن سرعان ما خاب الأمل، وتحوّلت إلى دولة
مملوكية قامعة، وخاصة بعد أن مسكت بأزمتها في حالات متعددة
المؤسسة العسكرية، ونظم الحزب الواحد الشمولي، وبرز شعار
«شرّ معروف أفضل من خير مظنون»، وتحوّل الركود إلى
استقرار، أو ما أسماه زعماء النهضة بالأمس «بالجمود على
الموجود»، وإذا كان ضرر الجمود في القرن التاسع عشر
محدودًا، فإن الركود يعني في عصر العولمة التقهقر
والتهميش.
مفكرو النهضة
يخطئ الدارس منهجيًا، عندما يحشر النهضويين
العرب في القرن التاسع عشر، في زمرة واحدة متجانسة، إذ
إنهم يمثلون تيارات سياسية مختلفة، ورؤى فكرية متباينة،
ويمكن أن نتحدث عن التيارات التالية:
- التيار الديني التجديدي، وأبرز حاملي
لوائه: الطهطاوي، والأفغاني، وعبده، وعبدالرحمن الكواكبي.
- التيار الليبرالي، ونجد ضمنه ممثلي مشروعات
متعددة: المشروع العلمي، ويمثله شبلي الشميل (1850 -
1917)، ويعقوب صروف (1851 - 1927)، وفارس نمر (1856 -
1951)، والمشروع السياسي الاجتماعي الثوري، ويمثله
المنظرون للثورة العُرابية، ثم ولي الدين يكن، وسليم سركيس،
والمشروع الاشتراكي العلماني المنادي بفصل الدين عن الدولة،
وأبرز حاملي لوائه فرح أنطون. ولا مناص من الإشارة في هذا
الصدد إلى أننا نجد فروقًا في رؤى ممثلي التيار الواحد حول
مسائل متعددة، وبخاصة المحرمة منها يومئذ مثل: الدين،
والمرأة، والجنس، والثورة الاجتماعية. ومن الصعب في بعض
الحالات تصنيف بعض الرواد ضمن هذه الفئة، أو تلك لما اتسمت
به مواقفهم من تقلب، ولعل أبرز مثال على ذلك رائد معاصر
للطهطاوي أطلق عليه بعض الباحثين العرب اسم «صعلوك
النهضويين العرب»، وهو أحمد فارس الشدياق (1804 - 1887)،
فهو صاحب مواقف جريئة حول تلك المسائل المحرمة، كان سباقًا
في معالجتها بكل جرأة في كتابه «الساق على الساق في ما هو
الفرياق»، فقد وصف الفقراء والفلاحين في المجتمعين الشرقي
والغربي قائلا: «إن رأس الفقير ليس بأضيق، ولا أصغر من رأس
الأمير، وإن يكن هذا أكبر عمامة منه، وأغلظ قذالاً»، كما
ندد بظلم الولاة، وذوي السلطة: «وعندي أن أعظم أسباب الشيب
في الأصل هو الهم والخوف من ظلم الولاة، وذوي الإمرة».لم
أعرف من نادى بحرية المعتقد، وحرية الجسد بين النهضويين
العرب في القرن التاسع عشر غير الشدياق، وقد راد في موضوع
المرأة كذلك لما قال: «لا نهضة للشرق إلا بنهضة المرأة».