- شجاعة المفكر إدوارد سعيد وعمق معرفته قدمتا دفاعًا
فريدًا ومنصفًا عن الإسلام في وجه التغطيات الجائرة في
الغرب.
- الاختزال والتعميم والتبسيط المخل مع سطحية المعرفة هي
أدوات التشويه المتعمد في الإعلام المتحيز ضد حقيقة الإسلام
السمح.
- التفكير الاستقطابي اصطنع عدوًا للغرب هو الشرق ثم اختزل
الشرق في عالم, ومن ثم في الإسلام.
عندما يكون المفكر عادلاً ومستقيمًا وعميق المعرفة, فإنه ينطلق
إلى الحقيقة الصافية دون شوائب من العرق أو اللون أو المعتقد الخاص,
وهو نوع من السلوك الثقافي الرفيع الذي يندر أن يتحلى به كثيرون في
مضمار الفكر والثقافة, ولقد كان إدوارد سعيد أحد هؤلاء المفكرين
العالميين النادرين, فهو الأمريكي الفلسطيني, والمسيحي ديانة, والعصري
ثقافة وتوجهًا, تصدى لحملة تشويه وتضليل تعرض لها الإسلام في الغرب,
وتتبع جذور هذه الحملة المستمرة منذ عصور الغرب الوسطى المظلمة
والظالمة للأوربيين وغير الأوربيين على السواء. وفي كتاب تأخر تقديمه
للقارئ العربي قرابة ربع قرن, بيّن إدوارد سعيد للقارئ الغربي فداحة
عدم الإنصاف الذي اتسمت به التغطية الإعلامية, والأكاديمية, لعالم
المسلمين تحت مصطلح (الإسلام). وبالرغم من مرور ربع قرن على تأليف
الكتاب, فإنه لايزال صالحًا للحديث عن عالم اليوم, ينبه الغربيين إلى
الاختطاف الفكري الغربي الظالم لدين عظيم, ويجعلنا نخجل من اختطاف مواز
يقوم به بعض المسلمين لديننا الحنيف.
تردد تعبير
اختطاف الإسلام على ألسنة بعض الكتّاب منذ بعض الوقت, ليشير إلى ظاهرة
التطرف وعمليات العنف, التي يقوم بها البعض مدّعيًا لها مرجعية دينية,
بينما الدين الإسلامي الحنيف براء مما يذهبون إليه من ترويع للآمنين
وانتهاك لحرمات النفس الإنسانية, التي شرّفها الله بأحسن خلقه, ومن ثم
كان التعبير كتابة عن أن هؤلاء المدعين بغير حق, إنما اختطفوا راية
الإسلام ورفعوها على أسطح أفعالهم المنافية للإسلام تسويغًا لأفعالهم
الشائنة, سواء كانوا يفعلون ذلك عن وعي ومخاتلة أو عن جهل ومكابرة.
وأجد هذا التعبير يلحّ عليّ بعد أن انتهيت من قراءة كتاب مهم من أعمال
المفكر العربي الأمريكي إدوارد سعيد بعنوان Covering Islam, وقد ترجمه
الدكتور محمد عناني تحت عنوان (تغطية الإسلام), لكنني أجد نفسي مدفوعًا
بشدة إلى استخدام تعبير (اختطاف الإسلام) كمعنى يعريه المفكر العالمي
الأمريكي العربي الراحل, وهذا هو الاختطاف الثاني, فالاختطاف الأول قام
ويقوم به نفر من المنتمين لعالم الإسلام بالدين والإقامة, بينما
الاختطاف الذي عناه الكتاب وأعنيه في هذه الافتتاحية, فهو اختطاف راية
الإسلام من قبل الإعلام الغربي ورفعها على أسطح ما ينقلونه عن عالم
المسلمين وبلدانهم - خاصة ما هو سيئ أو غريب عن العقل الغربي - ليوهموا
الرأي العام هناك بأن ما يقدمونه هو صورة الإسلام وليس صورة المسلمين,
والغاية ملتوية وواضحة, والعملية كلها هي اختطاف شائن ممن يدّعون
الموضوعية والعلمية والحياد في تغطية مجريات الأمور في عالم المسلمين,
بينما الحقيقة أبعد ما تكون عن مراميهم, وهو ما يكشف عنه المفكر النابه
والشجاع إدوارد سعيد, وفي كتاب تأخرت ترجمته إلى العربية قرابة ربع
قرن, وقد يكون ذلك مفهومًا في إطار أنه كان موجهًا للقارئ الغربي لفضح
عمليات الزيف الإعلامي والأكاديمي الذي ينصب على تفكير هذا القارئ, ومن
ثم يزوده بزاوية نظر نقدية تجعله يراجع ما يتلقاه من رسائل إعلامية
زائفة عن الإسلام, مكرّسة لتعميق الكراهية لا لتأصيل الفهم.
أصالة الرؤية - الاستشراف
صدر كتاب
إدوارد سعيد تحت العنوان المشار إليه سابقًا عن دار Routledge
&Kegan Paul بلندن عام 1981, ثم ظهرت طبعته الثانية عام 1997 عن
دار نشر Random House مع مقدمة ثانية ضافية تسوق المزيد من الإشارات
لأحداث وكتابات جدّت كأنما لتؤكد ما انتهى إليه إدوارد سعيد في طبعة
كتابه الأولى. ويقول الدكتور محمد عناني: (وفي ظني أن إدوارد سعيد لو
امتد به العمر ليصدر طبعة ثالثة (بعد11 سبتمبر وما تلاها من غزو
أفغانستان والعراق), لأضاف مقدمة تزيد من تأكيد صحة النتائج التي توصل
إليها البحث في الكتاب). وهذه الملاحظة صحيحة, فقراءة الكتاب بعد خمسة
وعشرين عامًا من صدوره, تجعل القارئ يحس بأنه يقرأ كتابًا يتحدث عن
أمور تجري الآن, فكأن الكتاب بأصالة كاتبه ولماحية رؤاه وعمق تحليلاته
يقدم رؤية تنبؤية استبقت الوقائع وتداعياتها بربع قرن من الزمان, وهو
أمر يفاقم من افتقادنا لإدوارد سعيد, وينبهنا لأهمية الرؤى الجادة
والثاقبة, التي لا يفتقر إلى بعض فرسانها عالمنا العربي اليوم, فهي رؤى
للغد واستكشافات للأفق, وعلينا أن نوليها أقصى الاهتمام.
يقول
إدوارد سعيد عن كتابه: (هذا هو الكتاب الثالث والأخير من سلسلة الكتب,
التي حاولت فيها تناول العلاقة القائمة في العصر الحديث بين عالم
الإسلام والعرب والشرق من ناحية, والغرب من ناحية أخرى. وكتابي
الأول (الاستشراق) هو أشد هذه الكتب تعميمًا إذ يرصد شتى مراحل تلك
العلاقة منذ غزو نابليون لمصر, ويتناول الفترة الاستعمارية الرئيسية
ونشأة دراسات المستشرقين الحديثة في أوربا حتى انتهاء الهيمنة,
البريطانية - الفرنسية في الوقت نفسه. وأما الأساس الفكري الذي يقوم
عليه كتاب (الاستشراق) فهو الارتباط الوثيق بين المعرفة والسلطة
والقوة.
ويقدم
الكتاب الثاني وعنوانه (المسألة الفلسطينية) تاريخ حالة خاصة, إذ يعرض
للصراع ما بين السكان العرب الأصليين لفلسطين, والحركة الصهيونية -
إسرائيل فيما بعد - ذات المنشأ الغربي, والتي تنتهج في تعاملها مع
حقائق الواقع (الشرقي) نهجًا غربيًا إلى حد كبير. وتحاول دراستي عن
فلسطين كذلك, وبمنهج أشد صراحة من منهج الاستشراق, وصف ما اختفى ويختفي
تحت السطح في الرؤى الغربية للشرق.
وأما في
(تغطية الإسلام), فإن موضوعي معاصر بصورة مباشرة, وهو المواقف الغربية,
والمواقف الأمريكية, خصوصًا إزاء العالم الإسلامي الذي بدأ الغربيون
يرون, منذ مطلع السبعينيات, أن له صلة وثيقة بهم, ومع ذلك يموج
بالقلاقل المعادية, ويمثل مشكلة لهم, وبالرغم من أن التورية في عنوان
هذا الكتاب, (تغطية الإسلام) سوف تتضح لأي قارئ له, فإنه يتطلب تفسيرًا
مبسطًا في البداية. فمن الأفكار التي أطرحها في هذا الكتاب, وفي
السياقات التي يستعمل فيها اليوم, يعني في ظاهره أمرًا واحدًا بسيطًا,
وأما في الواقع, فالمصطلح - كما يستعمل في الغرب - لا يتجاوز الحدود
الدنيا في الإشارة إلى الدين الإسلامي. فنحن نرى أولاً المصطلح بالصورة
التي يشيع فيها لدى الغربيين لا ينطبق انطباقًا واقعيًا على صورة
الحياة البالغة التنوع داخل عالم الإسلام, الذي يربو عدد سكانه على
ثمانمائة مليون نسمة, وتصل مساحة أراضيه إلى ملايين الأميال المربعة,
معظمها في إفريقيا وآسيا, إلى جانب عشرات مجتمعاته ودوله, وأشكال
تاريخه وجغرافيته وأنماطه الثقافية. وفي المقابل نرى أن (الإسلام) أصبح
يرتبط اليوم في الغرب بالأنباء المثيرة المفجعة بصفة خاصة, فقد انشغلت
أجهزة الإعلام الغربية بتغطية الإسلام في الأعوام القليلة الماضية.
تغطية مضللة حتى ولو بدت شاملة, ويضاف إليها عمل الأكاديميين في
الإسلام, ورجال الاستراتيجيات الجغرافية السياسية الذين يتحدثون عن
(هلال الأزمة). ومصدر التضليل هو أن هذه التغطية توحي لمن يتلقون
الأنباء بأنهم قد فهموا الإسلام, دون أن تقول لهم إن جانبًا كبيرًا من
هذه التغطية النشطة يستند إلى مادة أبعد ما تكون عن الموضوعية. فلقد
أدى استعمال مصطلح (الإسلام) إلى السماح بقدر واضح من الأخطاء, بأقوال
تنم عن التعبير عن التحيز العرقي الشديد, والكراهية الثقافية بل
والعنصرية, والعداءالعميق الذي قد يتذبذب صعودًا وهبوطًا, يجري ذلك كله
في إطار ما يفترض أنه تغطية منصفة متوازنة للإسلام).
الضغط والاختزال
هكذا يرى
إدوارد سعيد (بانوراما) ما يحدث في كثير من وسائل الإعلام الغربية
للإسلام, وعبر كتابه تتوالى تفاصيل الصورة التي تكشف عن آليات وأغراض
هذه التغطية غير العادلة التي تضغط التنوع الكبير في العالم الإسلامي
في وعاء واحد ضيّق فتبدو المادة المضغوطة كرهًا وتعسفًا كما لو كانت
نسقًا واحدًا تلصق عليه هذه التغطية الإعلامية مصطلح (الإسلام) بتعمد
للإساءة لا يخفى على من يتعمق ولو قليلا. وهذه الآلية تتبع منهجًا
عتيقًا يعتمد على إطلاق التعميمات الفورية والميسرة فيلغي عن المادة
المزعوم تغطيتها حقيقة ما في عالمها, وكل عالم معاصر, من تنوع وتعقيد
يجعلان من أي عنصر من عناصر هذا العالم مجرد توجه لابد أن تكون هناك
توجهات أخرى مضادة له. هذا التعميم, وهذه التعمية, يعتمدان لتمريرهما
السهل على تصوير الإسلام على أنه تهديد للحضارة الغربية, ويستثمران في
ذلك ما يموج به عالم المسلمين من قلاقل وسلوكيات فردية لا علاقة
للإسلام كدين ومنظومة روحية وأخلاقية بها, لأن مرجعية هذه السلوكيات
تفاعلات سياسية واجتماعية يحرك معظمها التخلف والقهر والفقر في كثير من
هذه المجتمعات التي فُرضت عليها هذه السمات السلبية بشكل يكاد يكون
تاريخيًا, وليست الحقبة الاستعمارية ببعيدة عن ذلك. هذا من ناحية
التغطية الإعلامية في الصحافة والبرامج التلفزيونية وعلى شبكة
الإنترنت, أما الدراسات الأكاديمية فهي ليست في وضع أفضل بما يفترض
أنها أعمق, وعن ذلك يقول إدوارد سعيد: (فإذا نظرنا إلى الحالة الراهنة
للدراسات الأكاديمية للإسلام, لم نجد فيها ما يكفي لتصحيح الأوضاع, بل
إن المجال برمته يعتبر من بعض زواياه هامشيًا بالنسبة للثقافة العامة,
كما أنه - من زوايا أخرى - قد استقطبته الحكومات والشركات. وقد أدى
ذلك, بصفة عامة, إلى عدم تأهيله لتغطية الإسلام بالمناهج التي ربما
كشفت لنا عما نجهله مما يدور تحت السطح في المجتمعات الإسلامية).
إذن ثمة
تناغم في التغطية المشوهة للإسلام بين وسائل الإعلام العامة والجهات
الأكاديمية, وهذا كله يصب في طاحونة المواقف المسبقة على الرغم من
تناقض أصحابها (فالآراء - هناك - تتفق على اعتبار (الإسلام) كبش الفداء
الذي تُنسب إليه كل ما يتصادف أن يكرهه في الأنساق السياسية
والاجتماعية والاقتصادية الجديدة في عالم اليوم. فاليمين يرى أن
الإسلام يمثل الهمجية واليسار يرى أنه يمثل حكم الدين في العصور
الوسطى, والوسط يرى أنه يمثل الغرابة الممجوجة, وأما ما اتفقت عليه هذه
الدوائر جميعًا (وعلى الرغم من ضآلة ما تعرفه عن العالم الإسلامي) فهو
استحالة قبول جوانب كثيرة من جوانبه).
استقطاب وتبسيط
هذا
التنسيق بين الفرقاء في الغرب هو في حقيقته التاريخية امتداد لممارسات
معرفية غربية قديمة ارتبطت في معظم فترات القرون الوسطى وحتى مطلع عصر
النهضة في أوربا بتصوير الإسلام ببشاعة, ولم يكن هناك وراء تلك البشاعة
في التصوير, أو التزوير, غير دوافع سياسية ومخاوف مردها أن الأحداث
الواقعية في العالم الحقيقي من حول الغرب - آنذاك - جعلت من الإسلام
قوة جبارة تهدد أساطيلها المواقع الأوربية المتقدمة على امتداد قرون,
وحتى بعد أن تعرض عالم الإسلام للتدهور وبدأت أوربا عصر الرقي والنهوض,
لم تبارح أوربا ذكريات الخوف من القوة الإسلامية التي كانت. وحتى مع
اكتساح القوى الاستعمارية الغربية لمعظم بلدان العالم الإسلامي ظلت
آلية العداء الكامن من غلاة الغربيين للإسلام تنمو, وأخذت هذه الآلية
أشكالاً أكثر تعقيدًا تمثلت منذ أواخر القرن الثامن عشر, على الأقل,
وحتى يومنا - كما يرى إدوارد سعيد في كتابه - في الفكر الاستشراقي الذي
اتسم بالتبسيط المخل بصورة جذرية لعالم الإسلام, فقد كان مرهونًا لإطار
استقطابي يقسم العالم إلى قسمين أحدهما هو (الشرق) والآخر هو (الغرب)
أو (عالمنا) على حد التفكير الاستقطابي لكثير من المستشرقين, وكان
طبيعيًا أن ينتمي الإسلام إلى العالم (المختلف) أي (الشرق), ومن ثم
ينال النصيب الأكبر من الاختزال وينظرون إليه كما لو كان وحدة متجانسة
جامدة يتعقبوتها بمشاعر بالغة الخصوصية من العداء والخوف معًا. هذا
الاختزال سبق أن رصده وفنده إدوارد سعيد في كتابه عن الاستشراق, وفي
كتابه الذي نتحدث عنه واصل تتبع الخيط الممتد في نسيج التفكير الغربي
الذي لم يبرأ منه كثير من المفكرين والكتّاب والإعلاميين الغربيين,
فعندما يتناول الروائيون والصحفيون وواضعو السياسات و(الخبراء) موضوع
الإسلام يستخدمون مصطلح (الإسلام) ليشمل لديهم جميع جوانب العالم
الإسلامي الشاسع المتنوع, ويختزلونها جميعًا في جوهر خاص يضمر الشر ولا
يعرف التفكير.
لقد انتبه
إدوارد سعيد إلى ذلك الاختزال المعيب والمريب في أنماط شائعة من
التفكير الغربي إزاء الإسلام, وذلك قبل أحداث 11 سبتمبر بسنوات طويلة
ولعله لو كان أعاد نشر كتابه بعد هذه الأحداث المروعة لما أضاف إلا
تأكيدًا لما ذهب إليه مبكرًا من كشف ذلك التفكير الغربي الاستقطابي
والاختزالي للإسلام لوضع عالم المسلمين الكبير والمتنوع في مصيدة سوء
الظن والتربّص الاستباقي الذي ينم عن افتقار واضح لروح الموضوعية
والعدالة في التفكير. ولقد كان هذا المنظور السلبي - إضافة لقيامه على
قاعدة سوء الظن والخوف التاريخيين - نتيجة لدخول غير المؤهلين فكريًا
لتغطية ما يحدث في عالم المسلمين, بعضهم مسلحًا بأفكار مسبقة وملقنة
كرجال مخابرات وممثلي شركات ومصالح, وكثير منهم كان يتحدث عن عالم لا
يعرفه بما يكفي بل حتى لا يعرف لغة أهله. وعن ذلك يقول إدوارد سعيد:
(والحقيقة المؤسفة أن عددًا أكبر مما ينبغي من الخبراء الذين كتبوا عن
العالم الإسلامي لم يكونوا يحيطون بلغات البلدان التي تناولوها,
فاضطروا إلى الاعتماد على الصحافة أو على غيرهم من الكتّاب الغربيين في
الحصول على معلوماتهم. وهكذا ازداد اعتمادهم على الصورة الرسمية أو
التقليدية للأمور بحيث أصبحت الفخ الذي وقعت فيه أجهزة الإعلام في مجمل
تغطيتها... وقد لا أبالغ إلا مبالغة طفيفة إذا قلت إن المسلمين والعرب
يتعرضون للتغطية الإعلامية, وللمناقشة, وللخشية منهم بصفة أساسية إما
باعتبارهم موردين للنفط أو بسبب احتمال مزاولتهم للإرهاب. ولم يتسرب
إلا أقل القليل من تفاصيل الحياة العربية الإسلامية وكثافتها الإنسانية
ومشاعرها المشوبة إلى وعي أحد, حتى أولئك الأشخاص الذين يحترفون نقل
أنباء العالم الإسلامي, وبدلاً من هذا لا نجد إلا سلسلة محدودة من
الصور الكاريكاتورية العامة والفجة للعالم الإسلامي).
وجهان لعملة واحدة
لقد أورد
المفكر الكبير طائفة واسعة من الأمثلة والقرائن التي تدلل على ما عابه
من عمليات التغطية تلك للإسلام, ولعلنا نذكر هنا مثالين أحدهما محيّر
والآخر منفر. أما المثال المحيّر فهو للكاتب والروائي العالمي
ف.س.نايبول, الذي يقول في إحدى مداخلاته: (إن الإسلام يلعب دورًا
كبيرًا, سواء في الأسماء الإسلامية العائلية التي يتسمى بها رجال حرب
العصابات في جزر الهند الغربية - وهو يرسم لهم صورة من يرثي
لحالهم - أو في الآثار الباقية من تجارة الرقيق الإفريقية). ويعلق
إدوارد سعيد برصانته الفكرية على ذلك قائلا: (وهكذا يتحول (الإسلام)
عند نايبول وأقرانه إلى عنوان يشمل كل ما يرفضه الإنسان من موقف
العقلانية المتحضرة والغربية). لكن ما يحيرنا في هذا المثل هو هذه
الخفة الممرورة التي تظهر على أداء كاتب كبير مثل نايبول يتكلم بمنطق
صبياني تمامًا عن الإرهاب الذي يختبئ في أسماء المسلمينَ وبذاكرة
تلفيقية تمامًا تلصق إثم تجارة الرقيق بالمسلمين وحدهم وكأن سفن العبيد
المكبلين بالأغلال والمخطوفين من ساحل إفريقيا الغربي بالملايين
والمنقولين قسرًا إلى الشواطئ الشرقية من الأمريكتين لم تكن تجارة
غربية, أو لم تحدث على الإطلاق!
أما المثال
المنفر, والذي لا يلغي التنفير عن مداخلة نايبول, فهو مقال كتبه مايكل
وولترز في مجلة (نيو ريببلك), في العدد الصادر بتاريخ 8 ديسمبر 1979,
بعنوان (الانفجار الإسلامي), ويناقش فيه باعتباره (غير متخصص), على حد
قوله, عددًا هائلاً من أحداث القرن العشرين المهمة على الرغم من أنها
(كما يقول) تتسم بالعنف ويؤسف لها في معظمها - في الفلبين وفي إيران
وفي فلسطين وغيرها - ويقول (إننا نستطيع تفسيرها باعتبارها نماذج لشيء
واحد هو الإسلام)!
هذان
ملمحان من ملامح عديدة دامغة تشير إلى عوار التغطية الإعلامية والفكرية
لعالم المسلمين كما رصدها إدوارد سعيد في المعالجات الغربية السائدة,
ومن المؤكد أن الصورة الآن أفدح وتتطلب معالجات دقيقة وعادلة وعميقة
الحوار ومصرة على الوجود في الساحة الفكرية والإعلامية الغربية كما كان
دأب الراحل النادر والشجاع إدوارد سعيد, كما أننا لن نعدم في الغرب
مفكرين وكتّابًا وإعلاميين منصفين, يظهرون للغربيين صورة الإسلام
الحقيقي النقيّة كدين للرحمة والتراحم والتعمير في الأرض.
وبعيدًا عن
محتوى الكتاب الذي كرسه المفكر الكبير الراحل لكشف وتعرية حقيقة تلك
(التغطية) المريبة والمعيبة لدين عظيم هو الإسلام, لابد من كلمة نتحمل
فيها مسئوليتنا كمسلمين وعرب, وتتعلق باختطاف آخر للإسلام يقوم به نفر
من المسلمين أو المحسوبين على الإسلام, والإسلام من أفكارهم وسلوكهم
براء, هؤلاء الذين يروعون الآمنين بغير مبرر, ويقطعون الرقاب ممثلين
بجثث قتلاهم, ويفجرون المدنيين من مواطنيهم بمزاعم جهاد في سبيل الله
وهو أبعد ما يكون عن الدين والجهاد من أجله. إنه الاختطاف الأخطر الذي
يتطلب كشف أسس الفساد في منطقه, لاستبعاد وقوع مزيد من الضحايا في
حبائله وساحات مجازره, ثم إنه الطبق الفاسد الذي تتغذى عليه غربان
وضباع الاختطاف الثاني, وهما وجهان لعملة واحدة, الكشف عن تشوهات
أحدهما يؤدي إلى الكشف عن تشوهات الوجه الآخر.
وفي كلمة
أخيرة, لابد من التأكيد على أن يكون فكر إدوارد سعيد وإنتاجه الغزير في
معالجة الاستشراق الغربي وكشف مواطن الضعف فيه تجاه العرب والمسلمين,
مادة للدراسة والبحث في مدارسنا وجامعاتنا العربية, لنتعلم منه كيف
نحاور الآخر الغربي, ونكشف له مسلماته الكثيرة الخاطئة في فهمه لديننا
وتراثنا, ولنعد جيلاً من العرب يفهم العقل الغربي وليتمكن من محاورته
ومجادلته والرد عليه من منطقه وأسسه الفكرية.