|
هاشم صالح
25 اكتوبر 2008
جريدة الشرق الأوسط
الغرب يديننا ويلاحقنا لأننا أصوليون متخلفون بحسب رأيه. ولكن من سيلاحق الغرب على أصوليته الرأسمالية الجشعة التي لا تشبع؟
فوجئت بأن سمير أمين لم يعترض على استخدامي لمصطلح الأصولية الرأسمالية عندما جمعتني به مناقشة تلفزيونية أخيرا، بل وأخذ المصطلح على عاتقه. وكان ذلك في برنامج «وجها لوجه» في القسم العربي في التلفزيون الفرنسي والذي يشرف عليه الصحافي التونسي توفيق مجيد. والواقع ان ما يحصل الآن يمثل فضيحة أخلاقية قبل ان تكون مصرفية أو مالية. فالوجه البشع للرأسمالية انكشف على حقيقته. وهي أكبر أزمة تصيب العالم منذ عام 1929. وعندما تسأل الخبراء في الشؤون الاقتصادية: هل ينبغي جعل الرأسمالية أخلاقية؟ يجيبونك قائلين: نعم، ولكن من الصعب ان تجعل من نظام لا أخلاقي بالمرة شيئا أخلاقيا. ينبغي على الدولة ان تتحمل مسؤوليتها في هذا المجال ولا تترك الرأسمالية المتوحشة تفعل ما تشاء. فشعار: دعه يعمل، دعه يمر، انتهى مفعوله أو قل كشف عن وجهه الآخر الشديد الخطورة. ينبغي على الدولة ان تتدخل وتنظم قواعد اللعبة ولا تدع اصحاب البنوك والرأسماليين يفعلون ما يشاءون بحجة الحرية واقتصاد السوق.
في الواقع ان السؤال المطروح على عالم اليوم هو التالي: هل يمكن أن نخلع وجهاً إنسانياً على العولمة الرأسمالية؟ هل يمكن تحويلها من عولمة متوحشة ظالمة الى عولمة ذات وجه انساني؟
كان البابا في محاضرته القيمة أمام المثقفين الفرنسيين قد طرح هذه المسألة بكل وضوح وأدان عبادة المال في المجتمعات الغربية المعاصرة. البعض يقولون بأن الدين انتهى في الغرب. وهذا صحيح الى حد كبير. ولكن المشكلة هي انه حل محله دين آخر جديد. أو قل حلَّت محل الأصولية المسيحية السابقة أصولية الرأسمالية اللاحقة التي لا قلب لها ولا احساس والتي تسحق الناس سحقا. انها اصولية المال وحبه والتعلق به كإله معبود أو كصنم من الأصنام. هنا يكمن وجه الخطر والخطورة في الحضارة الغربية المعاصرة. نقول ذلك على الرغم من ايجابياتها الكثيرة التي لا تنكر. ونحن لسنا من منكري ذلك، بل اننا متهمون بالعكس.
والواقع اننا لا نقصد هنا الى نفي كل صفة ايجابية عن هذه الحضارة التي اصبحت تفرض نموذجها على المعمورة كلها. ولكن نجاحاتها الصارخة في مجالات عديدة لا ينبغي ان تنسينا نواقصها وتطرفاتها.
وهو لا يدين الرأسمالية في المطلق أبدا، وانما يعترف بأنها هي التي قلبت العالم الزراعي القديم، واستغلت المصادر الطبيعية وصنعت كل هذه الثروات التي يذخر بها عالم اليوم وكل هذه الحضارة المادية والصناعية والتكنولوجية، وبالتالي فعبقرية الرأسمالية غير مشكوك بها. الشيء الذي يدينه فيها هو انها حفرت هوة سحيقة بين بلدان الشمال وبلدان الجنوب، وبين الأغنياء والفقراء داخل كل بلد. ثم انها بالغت في استغلال الطبيعة الى حد انها اصبحت تشكل خطرا على البيئة، بالاضافة الى ذلك فإن العالم اليوم هو أغنى مما كان عليه في أي وقت مضى. ومع ذلك فلا تزال المجاعات تحصد يوميا مائة ألف شخص! قلت يوميا وليس شهريا ولا سنويا. ثم يقول المفكر السويسري الذي تذكرنا لهجته احيانا بلهجة سلفه العظيم جان جاك روسو الذي كان قد أدان الأغنياء في عصره بطريقة مشابهة: ان ثروات العالم اليوم كافية لإطعام اثني عشر مليار شخص وليس فقط ستة مليارات شخص الذي هو عدد السكان حاليا، ومع ذلك فإن المجاعات تحصد الملايين سنويا في افريقيا وآسيا واميركا اللاتينية خصوصا. فهل هذا معقول؟ هل هذا مقبول اخلاقيا؟ هل يمكن للغرب ان يفتخر بحضارته وعلى أبوابه يقف كل هؤلاء الجوعى؟ وما معنى حضارة باردة، صقيعية، لا قلب لها ولا احساس؟
قلت في البرنامج المذكور بأن الرأسماليين الأوائل من أمثال هنري فورد وسواه كانوا افضل بكثير من الرأسماليين المعاصرين. كانوا يقولون: يكفي ان يكون راتب رئيس الشركة أكبر بخمس وعشرين مرة من راتب العامل الذي يشتغل عنده. فاذا كان راتب العامل الف دولار فإن راتب رب العمل لا ينبغي ان يتجاوز الخمسة وعشرين ألف دولار. فهذا يكفيه وزيادة له ولعائلته. ولكن الرأسماليين الحاليين يضحكون عليك عندما تذكر هذه الأرقام البدائية أمامهم. فرواتب رؤساء الشركات الفرنسية أو الأميركية تتجاوز بمائتي مرة أو حتى خمسمائة مرة رواتب عمالهم وكوادرهم! وهم ينشرون بكل وقاحة وصلف وافتخار رواتبهم في الصحف احيانا، فنسمع ان راتب رئيس الشركة الفلانية عشرة ملايين يورو في السنة أو حتى عشرون مليونا!.. هنا يكمن الخلل في الحضارة الغربية، هنا تكمن الأصولية المادية الفاحشة للرأسمالية.. وبالتالي فليست الأصولية الاسلامية هي وحدها المشكلة ايها السادة.. هناك أصولية أخرى أكبر وأخطر.